أحس بشيء بارد يداعب جسده، ينسل في ثنايا سراويله ثم يندس تحت قميصه ثم يرجع إلى الوراء ،ثم لا يندس بين ثنايا أثوابه ملاعبا جسده مثيرا نوعا من الرعشة المنتشرة في كامل أنحاء جسده.
فتح عينيه ببطء،ففاجأه المشهد،هاهو ملقى على قارعة شاطئ البحر تتلقفه الأمواج،تارة تغمره و تارة تهجره.اتكأ على مرفقيه و قام متأرجحا يمنة و يسرة.
الشمس متصدرة كبد السماء و أشعتها الذهبية تذهب البصر بحرارتها .باعد هذه الأشعة عن بصره ثم أجال ببصره ما أحاط به ،صرخ باحثا عن صديق"السلام عليكم،...يا صاح.......هل من أحد هنا......؟"ما من مجيب و ما من صوت سوى صدى صوته.فشعر برجفة تتملك كامل جسده،و تيقن أنه وقع في فخ جزيرة لا يعلم إن كانت مسكونة أم مهجورة.
"باسم"،شاب طموح مكافح،يبلغ من العمر اثنان و عشرين سنة.لكن الحياة لا تساير دائما طموحنا و لا تمنحنا فرصة لنبدع.فشل في دراسته و أخفق في تكوين ثروة بسيطة و له يعثر على عمل قار تتلقفه جدران الشوارع معظم الوقت.يئس من الحياة لكن الحياة لم تيأس منه. فقرر الانتقام منها و إثبات جبروته و تحداها.فقرر السفر خارج البلاد كما فعل آلاف الشبان أمثاله. و هذا ما حصل. رتبوا أمتعتهم وودعوا أهاليهم ثم تكدسوا في قارب صنعته أياديهم المشققة و انطلقوا لا يدرون ما مصيرهم.
إثر رحلتهم السعيدة صادفتهم عاصفة هوجاء،أطاحت بالسفينة و ركابها فنهشت الأسماك بعضه و ابتلعت الأمواج آخرين و أنقذت ألواح القارب المتبقين.
و كتب لباسم النجاة و ها هو الآن يتنفس و يتجول بين أرجاء الجزيرة، إلى أن صادفه هذا المشهد الغريب الذي سيغير مجرى حياته. فبينما هو يتمشى إذ به يصادف قرية غري سكانها. تراجع خطوات و اختفى بين الأغصان متأملا سكان هذه القبيلة ،قوم سمر الأجساد عاري الأقدام ثيابهم من قش و فراء حيوانات،منازلهم من طوب لكنها جميلة مزركشة بألوان زاهية ،أجساد نسوتهن غطت بأطنان من الجواهر المتلألئة.
كان باسم مستمتعا بمشاهدة هؤلاء الغرباء و هم يتجولون بين أرجاء القرية يتقاسمون ما تحصلوا عليه اليوم من زاد. و فجأة، أحس بشيء وخز مؤرخته، التفت مفزوعا فإذا به رجل يتطاير الشرر و الخوف من عينيه يوجه رمحه في وجهه،و من كسوة الرجل تيقن أنه فرد من أفراد القبيلة .نظر إليه باسم متلعثم اللسان عاجز عن الإفصاح.......
هاله المشهد، تلعثم لسانه و محيت الكلمات من ذاكرته
_انهض،قال الرجل بصوت لا يخلو من الرعشة
"الحمد الله إنه رجل غريب لكن لسانه أليف،و كلماته ليست غريبة" قال مخاطبا نفسه. ثم انتفض ببطء واقفا
_سر أمامي، صاح الرجل
سار و نصل الرمح يكاد يذهب بمؤخرته. سارا حتى وصلا إلى القرية. التف حوله سكان القرية و اختلطت الأصوات. فجأة، انشق الجمع و تقدم من وسطهم شيخ هرم لا تخلو ملامحه من الوقار
_ غريب كالعادة؟ تساءل الشيخ
_نعم،قال الرجل
_ ماذا تريدون مني؟ انقشعت الغشاوة الكاتمة، و صاح باسم في وجوههم
ابتسم الشيخ و قال:
_ كل خير
_ لا أرى في عيونكم خبرا
ضحك الشيخ و قال:
_ لماذا؟ نحن الذين نخشى أمثالك من الغرباء.
_ لا ، تقتلوني، فأنا إنسان طيب.
_لا تخف، قال الشيخ، ثم أضاف،قل يا بني، كيف وصلت إلى هنا؟
بعيون دامعة و فرائص ناعسة روى "باسم" حكايته و طريقة نجاته من الموت المحقق. ثم نظر إليهم بمقلتين دامعتين و قال:
_ الآن وقد عرفتم قصتي، هلا عرفتموني بمصيري؟
_كل خير يا بني، ما دامت غايتك شريفة .
التفت الشيخ إلى أهالي القرية و قال:
_ لا تخافوا، إنه مجرد شاب ضال عن أهله يطلب المعونة.
تعالت أصوات مختلطة:
_ الحمد الله....الحمد الله.
_ و الآن، يا بني تعال معي لأقرر مصيرك بعد أن صرت نفرا منا.
_ هل ستذبحونني؟ تساءل في خوف
_ بالطبع لا.
دلفا إلى داخل خيمة واسعة ،مرتبة الأثاث ،ذكرته بخيام ملوك قصص ألف ليلة و ليلة.أمر الشيخ بالطعام. فبسطت الموائد و نصبت أطعمة يجهل المرء ألوانها و أصنافها.
اندس "باسم" بين الصواني منقضا على الأخضر و اليابس. و حين فرغ من الأكل، مسكه الشيخ بلطف قبالته ثم قال:
_ أنا يا بني شيخ القبيلة و زعيمها. لقد تبين لي حسن نواياك و أنك شاب طموح تبحث عن عمل تجني منه أموال تمنحك عيشة مرضية قبل أن ترتمي بين أحضان اللحود. ونحن نرحب بك كفرد من أفراد القبيلة ، نزوجك امرأة من نسائنا و نسكنك داخل قصر من قصورنا ،فتنعم بالراحة و الأمن ،و لكن بشرط، ستصبح نفرا من أفراد القرية فلا تفكر يوما في العودة إلى موطنك لأن جزيرتنا ستكون وطنك الجديد و أهلها هم أهلك، وأنت على ما يبدو كنت ستفارق أهلك لترتمي بين أحضان بلد غريب و سكان غرب فشاءت الأقدار أن ترميك هنا، إن وافقت فيا مرحبا بالمولود الجديد و إن رفضت سنعيدك إلى البحر الذي رماك إلينا.
" مال و زوجة هذا ما أرته و ما شأني إن حصلت عليه في جزيرة أو في بلد أجنبي؟" خاطب "باسم" نفسه مسائلا ثم صاح:
_ موافق.
مضت الأيام و الأسابيع و الشهور و "باسم مستمتع بعمله و مسكنه الجديدين. و التقى في ذات يوم بفتاة سمراء ، هيفاء كالوردة فاحم شعرها، عسلية عيناها ، تربع حبها في قلبه و تملكه العشق و الهيام. و كتب له الوصال ووافق أهلها بأن يكون لها بعلا.
عمت الأفراح القرية ،و الكل ينتظر خروج العروس من خدره. دلف صبي إلى داخل البيت. فقدم باقة من الزهور إلى العريس قائلا:
_ قطفت هذه الورود من حديقتك ، ما أجملها، سلمت يداك.
و لأول مرة يتفطن "باسم" روعة عمله و إتقانه له، و اكتشف موهبة تغافل عنها مذ كان صبيا يلهو بين الجداول و البساتين، حين كان يخرج للضيعة مع والده ، ذاك البستاني الذي طالما أحبه و أوصاه بالأرض خيرا، إنه اليوم و في هذه اللحظة ، لحظة ما قبل عقد القران يتذكر يوم أوصاه أبوه بأن يكون حنونا على الأرض " يل بني هذه الأرض هي أمنا الثانية كلما أخلصت في حبها أخلصت في و فائها و أدرت عليك العطايا ، فلا تهجرها يا بني، و كن حنونا عليها، و كما تفي لأرضك و أرض أبيك كن وفيا لأرض أجدادك، هذه الأرض التي خلقنا من طينها و تنفسنا هواءها و تنعمنا بدفء شمسها و تنشقنا عبق أزهارها، هذه أرض الوطن يا صغيري فلا تبعها و لو بأغلى ثمن ،و كن وفيا لبلدك و أمتك، فأن تعيش فقيرا عزيزا بين أحضان بلدك الدافئ خير من رغيف لحم تتناوله داخل قصر جدرانه باردة"
مر صوت أبيه بين أذانه و كأنه ماثل أمامه، هالته نوبة من الذهول، أيقظته منها هزات الصبي و هو يصيح:
_ هيا بنا، إنهم في انتظارك
يكاد يتيه في دوامة من الأسئلة . نظر إلى الصبي في ذهول و قال كالمخاطب نفسه" نحن...من أنتم لتنتظرونني..؟أبهذه السرعة أحببتموني...؟ كيف؟ لماذا؟؟" لم يدر"باسم ما الذي انتابه في تلك اللحظة، صوت أبيه يداهمه آنذاك ، أسئلة غريبة تداهمه و تلاعب رأسه. و بعد لحظات من التفكير بدأت الغيوم تنقشع و بدأت الحقيقة في الظهور "ها أنا ذا وسط أناس لا أعرفهم ، لا صلة تربطني بهم،تزوجت صبية من أبنائهم ما أعجبني فيها عين تسحر و صوت يطرب،أعمل أجيرا لصالح أناس لا أعرفهم ، و أزرع أرضا غريبة، إني تائه وسط هذه القبيلة، أكاد أختنق ، أكاد أموت ، اشتقت إلى وطني، إلى رائحة بلادي، اشتقت إلى أمي،إخوتي،أمي كم أنا بحاجة إلى صدرك الحنون،أبي سأعمل معك في الضيعة لن أنكث وعودي بعد الآن،ة الله على ما أقول شهيد، و لكن ما العمل، يا إلهي، لو تكلمت لن أبق هنا،سأموت، سيقتلونني...
أحس بألم شديد، كانت الوقعة مؤلمة كادت تحرمه نعمة الجلوس،"الحمد الله"،قال "باسم"،كان حلما،بل كابوسا،قبل الأرض مرارا و تكرارا، ثم قال:
_ ما أعطر رائحتك يا أرض بلادي، تبا للثراء ،خبز و ماء في بلاد يقطنها الأهل و الأحباب و بناها الأجداد و الآباء خير من لحم و حساء في بلد لا تأنس لها روحي.
شعر بهزات تكاد تذهب أرجل الطاولة،فتناول هاتفه و قال مجيبا:
_ السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، كيف حالك يا "سالم"؟
_و عليكم السلام ، بخير،لا تتأخر الليلة على الساعة العاشرة مساء.
_عفوا يا صديقي ،تراجعت عن قراري.
_ ماذا؟ إنها فرصة لن تعوض، الشرطة منهمكة بمهام أخرى ،لا تفرط في حلمك بأن تكون صاحب ثروة.
_ شكرا يا صديقي ،لكنني غيرت رأيي، السلام عليكم.
أغلق الهاتف ،خرج من الغرفة.تناول الفأس و قصد الحقل.
إمضاء الكاتبة الصغيرة :مروى بن عبد الجليل