دليل القرآن وعلاقته بالسنة في التشريعكتبهامحمد البويسفي ، في 15 يونيو 2007 الساعة: 15:25 م
حدد الله سبحانه وتعالى علاقة القرآن بالسنة عندما بين أن وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم هي بيان القرآن، قال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾.
وبناء على أن السنة «شارحة للقرآن وموضحة له» فقد اعتبر العلماء أنها تشكل معه وحدة بنائية؛ بحيث لا يمكن فهمه استقلالا عنها، وهذا ما يوضحه ابن حزم بقوله: «… الحديث والقرآن كله كلفظة واحدة، فلا يحكم بآية دون أخرى، ولا بحديث دون آخر؛ بل يضم كل ذلك بعضه إلى بعض؛ إذ ليس بعض ذلك أولى بالاتباع من بعض، ومن فعل غير هذا فقد تحكم بلا دليل».
إن وضوح علاقة القرآن بالسنة – الذي تحدثنا عنه آنفا – لم يمنع من قيام إشكالات حول هذه العلاقة في مرحلة لاحقة من تاريخ التشريع الإسلامي، خصوصا الإشكالات المتعلقة بالتعارض والنسخ والتخصيص.
فمما يتعلق من ذلك بالتعارض – مثلا – ما هو مأثور عن الإمام مالك – رحمه الله تعالى – من «رده لبعض الآثار المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لمخالفتها المنصوصَ عليه في القرآن، أو المقررَ المعروفَ من قواعد الدين … »، ومن ذلك رده خبر أداء الصدقة عن المتوفى لمعارضته لقول الله تعالى :﴿ وَ أَن لَّيْسَ لِلإنسان إلا ما سعى ﴾.
ولمالك – رحمه الله تعالى – في ذلك سلف من الصحابة؛ فقد قالت عائشة رضي الله عنها لابن أبي مليكة – لما حدثها عن عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه ” - : والله إنك لتخبرني عن غير كاذب ولامتهم، ولكن السمعَ يخطئ، وفي القرآن ما يكفيكم: ﴿ ألاَّ تزر وازرة وزر أخرى﴾ .
وقبل عائشة؛ رد عمر بن الخطاب خبرَ فاطمةَ بنت قيس: طلقني زوجي البتة، فخاصمتًه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النفقة والسكنى، فلم يجعل لي نفقة ولا سكنى. فقال عمر: لاندع كتاب ربنا لقول امرأة لاندري لعلها نسيت أو شبه عليها.
يعني بالكتاب قولَه تعالى: ﴿ اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ﴾. ولهذا رده الحنفية، وجعلوا للمبتوتة النفقة والسكنى معا.
ولئن كان عذر عمر هو عدم ثبوت الحديث لديه، فليس الأمر كذلك فيما يتعلق بعائشة؛ فإنها صرحت
بثبوت السند لديها كما رأينا آنفا.
وقد اشتهر خلاف الأصوليين في النسخ: بين من ينكر وجوده أصلا، ومن يثبت منه صورا دون أخرى، وفيما يتعلق بموضوعنا فقد عُلم ما ذهب إليه الشافعي من عدم جواز« نسخ القرآن بالسنة بحال وإن كانت متواترة ».
كما ذاع خلافهم في تخصيص الكتاب بالسنة؛ سواء كانت قطعية أو ظنية، وتخصيص السنة بالكتاب.
وفي وقت ما من تاريخ التشريع الاسلامي ظهر الخلاف في كون السنة تستقل بتشريع الاحكام، أم أنها لاتأتي إلا بما له أصل في القرآن؟.
وكان الشافعي –في الرسالة- قد بين حالات السنة مع القرآن، وقرر أنها مؤسِّسة؛ أي مستقلة بتشريع الأحكام.
غير أن الشاطبي يقرر أن «السنة راجعة في معناها إلى الكتاب (…) فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية».
وقد ترتب على هذا الخلاف أمور هي من الأهمية بمكان، مثل: عدم استواء المأمور به قرآنا مع المأمور به سنة، ومثل قضية ترتيب الأدلة…
وقد أطل هذا الإشكال – إشكال علاقة القرآن بالسنة؛ باعتبارهما دليلين – برأسه في عصرنا الحاضر؛ في مظاهر مختلفة الأشكال:
فقد أطل كمظهر من مظاهر غلو تيارات "اللامذهبية" الجديدة؛ حين أوقعها "إهمال" القرآن والاستغناء عنه بالسنة في «التجزيء الفقهي وإغفال قصد الشارع من التشريع» والذي تضمنته كليات الأحكام التي جاء بها القرآن الكريم، وهو ما أوقعهم في «السطحية في الفهم، والانحراف في الاستنباط»، مما حدا بالعلماء والمفكرين إلى طرقه من جديد.
ومن هؤلاء الذين طرقوه الشيخ محمد الغزالي في كتابه المثير للجدل: "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، وهذا الكتاب – في الواقع - دراسة في صميم فقه القرآن، وقد ألح فيه على أن الفقه في الدين يقوم أولا على "فقه القرآن" ومعرفة مقاصده وغاياته، إلى درجة قرر معها أنه لا عبرة بالحديث إذا خالف تلك المقاصد والغايات ولو صح سنده، وشفع ذلك بتطبيقات عملية؛ رد فيها أحاديث صحيحة مشهورة !
و إذا كان الكثيرون يرون أن المنهج الذي سلكه الغزالي في تحديد العلاقة بين القرآن والسنة – في كتابه المذكور – صحيح في جملته؛ فإنهم يقرون بأنه أخطأ في تنزيل هذا المنهج وتطبيقه على أرض الواقع.
وذلك هو ما دفع تلميذه الدكتور يوسف القرضاوي إلى الرد عليه – وإن لم يصرح بذلك – في كتابه: "كيف نتعامل مع السنة النبوية: معالم وضوابط".
ومن الأمور التي أثارها القرضاوي في كتابه: ضرورةُ فهم السنة في ضوء القرآن، حيث يرى أنه «إذا اختلفت أفهامُ الفقهاء أو الشراح في الاستنباط من السنن؛ فأولاها وأسعدُها بالصواب ما أيده القرآن».
كما أكد على أهمية القرآن في نقد المتن؛ فمن الأمور التي يرد بها خبر الآحاد –مثلا- أو يُتوقف فيه بسببها معارضتُه للدليل القطعي (القرآن).
غير أن ذلك لم يَحُلَّ الإشكال بقدر ما أثاره، خصوصا أن موضوعه أصبح أساسا من الأسس التي تقوم عليها مدرسة فكرية لها وزنها بين المدارس الفكرية المعاصرة، وهي مدرسة "المعهد العالمي للفكر الإسلامي".
حيث يرى المعهد أن من القضايا التي تحتاج إلى مزيد من البحث؛ قضايا مثل: «مرتبة السنة من الكتاب، وقضية نسخ الكتاب بالسنة وتخصيصه وتقييده بها (…) واشتراك السنة القولية مع نصوص الكتاب الكريم في مباحث مشتركة، وإصدار الأحكام المشتركة على النصين معاً في كثير من هذه القضايا، وما أثر ذلك في العقل المسلم فكريا وتربويا؟ وما هي الأطر التاريخية التي ولدت تلك القضايا؟».
وقد كان المعهد – في الواقع – هو من استكتب الشيخين الغزالي و القرضاوي في هذا الموضوع؛ حيث كتبا كتابيهما المذكورين.
لقد تبين مما سبق أن إشكال علاقة القرآن بالسنة – كدليلين – تفرعت عنه قضايا؛ أثيرت حولها إشكالات منذ مرحلة مبكرة من تاريخ التشريع الإسلامي وحتى الآن، ومنها على سبيل المثال: قضية ترتيب الأدلة وقضايا النسخ والتخصيص والتعارض إلخ…
وهي قضايا لا يزال الباحثون يسعون لإيجاد حلول نهائية لها، ولعل أول لبنة في ذلك الطريق هي القراءة الوصفية ثم النقدية لما سطره القدماء في ميدان تعاملهم من النصوص؛ لاستخلاص ما توصلوا إليه، ثم تركيبه – بعد ذلك – في نسقية محددة.
لأخي في الطلب: أحمد سالم ولد باب
هذا المقال مقتبس عن
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]