تندرج مسالة الإنية والغيرية في مسألة أهم هي مسألة الإنساني بين الكثرة والوحدة. وهذه المسألة تتحرك في سياق مطلب الكونية. ذلك أن تحديد الإنسان يفترض إنتاج تعريف كوني يشارك فيه كل الأفراد، لكن هل أن هذه المشاركة تتم على نفس النحو؟ أم هل أن كلّ فرد يشارك في الكلّي بطريقة خصوصية؟
أفلاطون Platon
يقرّ أفلاطون أن كمال الوجود الإنساني أي إنية الإنسان تتحقق بالنفس وحدها ذلك أن أفلاطون يتبنى موقفا ثنائيا إذ يفسر الإنسان بإرجاعه إلى مبدأين مختلفين:
* مبدأ روحاني هو النفس التي تتحدد تماما مثلما سيكون الأمرعند أرسطو باعتبارها مبدأ حركة.
* مبدأ مـــادي هو الجسد.
ويختزل الإنسان في بعده الواعي و يقر بأن النفس تتحكم كليا في الجسد.
وخصوصية أفلاطون تتمثل في إقراره بأن النفس جوهر في حين يمثل الجسد عرض. لذلك يختزل أفلاطون الإنسان في بعده الواعي ويقصي الجسد من ماهية الإنسان، إذ أن الجسد بالنسبة إليه عاطل عطالة كاملة فالنفس هي التي تحرّكه وهو مصدر رذيلة ويمثل عائقا يعوق النفس في عملية صعودها نحو المثل.
أرسطو Aristote
يطرح أرسطو مشكلة علاقة النفس والجسد في إطار فهمه لعلاقة الصورة بالمادة أو إن شئنا الدقة علاقة الصورة بالهيولى (الهيولى هي المادة اللامتشكلة). و من هذا المنطلق فإن الإنسان سيكون إنسانا بصورته أي بنفسه، فالنفس أو الروح هي ما يمثل حقيقة الإنسان. فتماما كما تشكل الصورة المادة، تشكل النفس الجسد وبالتالي فإن أرسطو يختزل الإنسان في بعده الواعي و هذا ما يظهر بجلاء في إقراره بأن الإنسان حيوان عاقل. و هذا المنظور الأرسطي الذي يفهم الإنسان على شاكلة فهمه لعلاقة الصورة بالمادة جعله ينتهي إلى تحديد النفس بما هي مبدأ حركة. و عن هذا التحديد تنتج نظريته الشهيرة حول الأنفس الحيوانية.
ابن سينا Avicenne
موقف ابن سينا من مسألة الإنية يتلخص في برهان الرجل المعلق في الفضاء إذ هو يفترض أن الإنسان ولد دفعة واحدة فخلق يهوي في الفضاء دون أن تكون لأعضائه إمكانية التقاطع، و لكنه مع ذلك يستطيع أن يثبت ذاته موجودة. و من هذا البرهان يستخلص ابن سينا أن النفس هي الإنسان عند التحقيق و ان الجسد لا يمثل حدا في ماهية الإنسان. ذلك أن ابن سينا تماما مثل أرسطو و أفلاطون يقرّ بأن النفس العاقلة هي ما يؤسس حقيقة الإنسان و ماهيته، فالأنا يدرك ذاته دون أن يكون في حاجة إلى أيّ علة خارجة عنه سواء كانت جسدا أو أي شيء آخر خارجي.
ديكارت Descartes
لإثبات الذات موجودة ينطلق ديكارت من تجربة الشك. إذ أن ديكارت يشك في كلّ شيء يجد فيه مجرّد تردّد وهكذا لا يترك الشك مجالا دون أن يطاله. إلا أن هذا الشك الذي طال كلّ شيء لا يستطيع أن يخامر الحالة التي أكون فيها بصدد الشكّ. فديكارت يستطيع أن يشك في كلّ شيء إلا في كونه يشك لأن الشك في الشك لا يقوم إلا بتدعيم الشك. و هكذا يأتي الشك على كلّ شيء إلا على اليقين الذي يتضمنه، يقين الذات بذاتها موجودة كفكر أي يقين الكوجيتو.
وخصوصية ديكارت تتمثل في كونه على خلاف أفلاطون وأرسطو يحدد النفس كفكر لا كمبدأ حركة وبالتالي تماما مثل أرسطو وأفلاطون يعتبر أن النفس جوهر ولكنه على خلاف أرسطو وأفلاطون يعتبر أيضا أن الجسد جوهرا من جهة كونه مستقل بذاته إذ أن حركة الجسد لا تفسرها النفس وإنما هي حركة آلية ميكانيكية نابعة من طبيعة الجسد ذاته كامتداد مادي
أفلاطون، أرسطو، ابن سينا و ديكارت يثبتون إذا الإنية بإقصاء كلّ أشكال الغيرية داخلية كانت أم خارجية فلا الجسد ولا العالم الخارجي يحددان ماهية الإنسان.
ومن هذا المنطلق تتحدد الذات باعتبارها واقعا ميتافيزيقيا، باعتبارها المعنى المؤسس للإنسانية والأنا ليس إلا الوعي بوحدة الذات التي تربط وتجمع بين حالاتها المختلفة وأفعالها المتعاقبة في الزمان. والذات عند هؤلاء الفلاسفة تتحدّد في نهاية المطاف باعتبارها الجوهر وهو التحديد الذي أقرّه أرسطو بما أن الذات كجوهر تسند إليها كل الخصائص والأعراض بما في ذلك الجسد.
سبينوزا Spinoza
يمثل موقف سبينوزا أول موقف فلسفي يرد الاعتبار للجسد في تحديد الإنية ولكن أيضا موقف يسعى إلى إقحام الإنسان في الطبيعة و في العالم عبر سلب الامتيازات الميتافيزيقية التي أضفاها التصور الثنائي على الإنسان.
ذلك أن سبينوزا على خلاف أرسطو و ديكارت يحدد الجوهر لا باعتباره المتصل بذاته ولكن باعتباره المسبب لذاته وهو ما يعني أنه لا يوجد إلا جوهر واحد هو الله أو الطبيعة، و أنّ هذا الجوهر يتكون من عدد لا متناهي من الصفات وأن كلّ صفة من هذه الصفات تتكوّن من عدد لا متناهي من الضروب أو الأحوال Modes.
وهذا يعني أن كلّ ما يوجد هو إما ضرب من ضروب صفة الامتداد و إما ضرب من ضروب صفة الفكر و إما ضرب من ضروب أحد الصفات الأخرى التي لا يعرفها الإنسان و إما علاقة ضريبة بين ضربين و هو حال الإنسان. و هذا يعني أن الوحدة بالنسبة لسبينوزا تتمثل في الجوهر الواحد في حين تمثل الصفات اللامتناهية وضروبها الكثرة. و الضروب بما فيها الإنسان تتحدد كانفعالن أي كرغبة في المحافظة على البقاء (كوناتوس). و الصراع الذي كان يتحدث عنه ديكارت داخل الإنسان، بين العقل والانفعالات، أصبح مع سبينوزا صراعا خارج الإنسان، صراع كلّ الضروب من أجل المحافظة على البقاء.
الجسد مع سبينوزا يتماهى مع النفس في مستوى الماهية بما أن النفس والجسد شيء واحد تارة ننظر إليه من جهة صفة الفكر وطورا ننظر إليه من جهة صفة الامتداد، و يتماهي معها في المستوى الانطولوجي بما أن كلّ من النفس والجسد يمثل ضربا أو حال، و يتماهى معها في مستوى القوة والفعل بما أنّ فعل النفس هو فعل الجسد وهو الفعل الذي ينحو إلى المحافظة على البقاء.
مع سبينوزا إذا لا أنية دون الغيرية الداخلية والخارجية معا، فالإنسان يتحدد بوعيه وجسده ويتحدد كرغبة تتطوّر في العالم أو الطبيعة.
مارلو بونتي M.M.Ponty
إنّ تجاوز سبينوزا لثنائية النفس والجسد يبقى رهين الإقرار بالحلولية لذلك تتقدم الفينومينولوجيا مع مارلوبونتي وهوسرل كردّ فعل ضد الثنائيات التي أنتجها الإرث الديكارتي بين الشيء والفكرة، الموضوع والذات والجسد والنفس... وردّة الفعل هذه كانت بالعودة للوجود في العالم لاستكشاف ارتباط الجسد بمختلف سجلات القصدية بدأ بالإحساس ووصولا إلى الحكم. فالجسد بالنسبة لمارلوبونتي لا يمكن اختزاله في كونه مجرّد تراكم الوظائف و الميكانيزمات التي تصفها الفيزيولوجيا، فالجسد هو أكثر من مجرّد العضوية الارتكاسية التي تتمثله فيها الفيزيولوجيا، ذلك أنني لا أستطيع أن أفهم علاقة النفس والجسد في الإنسان إذا كنت أعتبر الجسد مجرّد موضوع لأن هذا الجسد الموضوع هو جسد الآخر كما أراه، إنه هذه الجثة الهامدة التي يشرحها طلبة الطب في غرفة التشريح، في حين أن جسدي الخاص لا يدرك مثلما تدرك المواضيع الخارجية بل إني أعيش حضوره الحي من الداخل. و الجسد المعيش على هذا النحو يتقدّم منذ الوهلة الأولى باعتباره غير قابل للاختزال في الجسدية فحسب، إذ هناك تطابق بين حالاتي المختلفة وضروب وجود جسدي. فنحن مع الفينومينولوجيا لم نعد إزاء جسد ملطخ بنقص ما، إذ نكتشف أن الجسد ذات و أن الإنسان واحد و ما كان يسميه ديكارت جسدا ليس إلا الشخص الموضوع أي الإنسان كما يبدو في الفضاء وفي نظر الآخر، و ما يسميه ديكارت نفسا ليس إلا الشخص الذات أي ما يمثله الإنسان بالنسبة للأنا وهو ما يسميه مارلوبونتي بالجسد الذات.
ردّ الاعتبار للجسد مع مارلوبونتي مرفوق باستحضار العالم كآخر يمثل شرطا لتحقيق الانية، لأن الوعي المتجسد يتحدّد في علاقته القصدية بالعالم إذ يتحدّد الوعي مع الفينومينولوجيا باعتباره فعل التمعين بما أن كلّ وعي هو وعي بشيء ما، و هكذا فإن الوعي ليس كما اعتقد ديكارت داخلية محضة وبسيطة، فالوعي ليست له محتويات بما أنه الفعل الذي نقصد به الموضوع، و بما أن هناك طرقا مختلفة للتوجّه نحو الموضوع فإنه يجب أن نتحدث مع الفينومينولوجيا على أصناف الوعي : وعي مدرك، وعي راغب، وعي متخيل، وعي مندهش...و العالم من هذا المنظور هو مجموع معاني، و بالتالي لا يمكن أن يوجد وعيا نظريا بالذات، و بما أن علاقة الوعي بالعالم هي علاقة ديناميكية فلا نستطيع أن نفهم العالم دون وعي و لا نستطيع أن نفهم وعي دون عالم، فلا يوجد عالم إلا بالنسبة للوعي ولا يوجد وعي إذا لم يكن وعي عالم.