إنّ الحرفي يستخدم الأداة ليشكّل المواد الطبيعية ولا يتعلق الأمر إلاّ بحسن استخدام الأداة، استخدام يتطوّر ويتحسّن مع مرور الزمن واكتساب الخبرة. وفي هذا المعنى لا يختلف عمل الحرفي عن عمل الخادم أو حتى الفنان، فثلاثتهم يعالج المادة بيديه عبر الأداة، ثلاثتهم يطوّر قدرة على استخدام الأدوات وتكون إمكانات الإبداع عندها بين يدي الإنسان، فالعمل اليدوي يتحدّد باعتباره مهارة وقدرة وإبداعا متحوّلا، عملا يترك للعامل حرية المبادرة في نفس الوقت الذي يشكّل فيه الطبيعة. لكنّ هذا الوضع تغيّر مع قدوم الآلات المتطوّرة عبر الصناعة والمكننة إذ تتوسّط الآلة الإنسان والمادة ولم يعدْ العمل معالجة يدوية تقتضي مجهودات كبيرة ومهارات بل أصبح مجرّد مراقبة للآلة، إنه حتما عمل أقلّ عناء بالنسبة للإنسان، ولكن في نفس الوقت لم تعد إمكانات الخلق والإبداع في العمل موكولة للإنسان وإنما للآلة، والمهمّ هو أن يكون لنا في المصنع أو في المانيفكتورة عملة مختصين في مراقبة أنواع معينة من الآلات.
والعامل المختصّ ليس حرفيا وليس له خاصية تلقائية الاختيار الحرّ بما أنّ المنتوج قدّ وفق مقتضيات اقتصادية، وتمّ تصوّره في مكاتب الدراسات، والعامل لا يقوم إلاّ بما يُطلب منه. وظهور مجتمع صناعي والتخلص من العمل الشاق بالإضافة إلى التطوّر في الطبّ ونمط الحياة والرّخاء شبه العام ضاعف من عدد الجنس البشري كما ضاعف من حاجياته وزادت السوق توسّعا، وفي هذا الوضع كان لابدّ من تنظيم العمل عقلانيا لتأويج المردودية وتحقيق النجاعة المطلوبة من المؤسسة الاقتصادية. هاجس المردودية والنجاعة أدّى إلى تفتيت العمل، إلى مهامّ بسيطة موزّعة بين العملة وأصبح العامل "رجل العملية الواحدة" (سارتر(
ففي إطار هذا التنظيم العلمي للعمل ظهرت التيلرة. وظهور العمل المتسلسل جعل من السهل تعويض العامل بآلة للضغط على التكلفة بغية تحسين قدرة المؤسسة على المنافسة في السوق. وهكذا أصبح العمل تقنيا صرفا منمّطا ولا يترك أيّ مجال للمبادرة الخاصة من قبل العامل، إنه أصبح نشاطا آليا على وتيرة واحدة والعمل المفتت ليس إلاّ عملا مقلقا ومولّدا للحصر. وفي وضع العمل المتسلسل لا يستطيع العامل أن يحبّ عمله، إنه يبيع جهد عمله فقط،، إنه يبيع ذاته مقابل أجرٍ، هذا يعني أن ربط العمل بالنجاعة والمردودية أدّى إلى اغتراب العمل حيث تعوّض المهنة بالعملية الواحدة فعوض أن ينتج العامل منتوجا كاملا يكتفي بعملية واحدة في سيرورة الانتاج، وهو ما يجعله مجبرا على اكتساب "مهارات" تتماشى وطبيعة العمل المطلوب منه بقطع النظر عن طموحاته وذوقه العام. كما أنّ التطوّرات التقنية المتسارعة تفرض عليه رسكلة مستمرّة، للمحافظة على عمله. كلّ ذلك يجعل العامل منغلقا على ذاته ويحرم في ذات الوقت ومن كلّ مسؤولية: مسؤولية تنظيم العمل، مسؤولية الإنتاج، مسؤولية تنظيم أوقات العمل... وبالتالي يُحرمُ العامل من لذة إنتاج شيء ما، لذة القيام بشيء ما بطريقة ذاتية مع الآخرين. ولكلّ هذه الأسباب يجدُ العامل نفسه مسلوبا في عمله غريبا عن ذاته لأنه لا يضع شيئا منها في العمل ولا يقوم إلاّ بما يُطلبُ منه القيام به. ويلاحظ "ماركس" أنّ الاغتراب هو الحالة التي تميّز التناقضات القائمة في كلّ مرحلة من مراحل تطوّر المجتمع فهو السيرورة التي يفقد فيها الإنسان ذاته تحت تأثير العوامل الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو الدينية، ويصبحُ عبدا للأشياء المادية فتتصرّف فيه السلطات الحاكمة تصرّفها في السلع التجارية.
ويجب أن نلاحظ أنّ النجاعة التي كانت وراء تفتيت العمل في التقسيم التقني لم تلغ التقسيم الاجتماعي للعمل ذلك أنّ التقسيم الاجتماعي للعمل يرتكز على مبدأين أساسيين. يتمثّل المبدأ الأوّل في اعتبار أنّ كلّ حاجة اجتماعية يقابلها عمل، ويتمثل المبدأ الثاني في اعتبار أنّ كلّ فرد لا يقوم إلا بعمل واحد في نفس الوقت. وهذا يعني أن التقسيم الاجتماعي للعمل يتمثل في تأمين ما لا يستطيع الفرد تحقيقه بمفرده على الصعيد الاجتماعي للعمل أي تأمين معاش كلّ الأفراد بما في ذلك الأفراد الذين لا يعملون. وعلى خلاف ذلك يتعلق الأمر في التقسيم التقني للعمل بتحقيق النجاعة والمردودية عبر جعل عدّة عمّال يتشاركون في إنتاج سلعة واحدة. فلا يشارك كلّ واحد منهم إلا بجزء ضئيل في سيرورة الإنتاج، وما يقسمه التقسيم التقني للعمل، هو إذن سيرورة الانتاج مثلما بين ذلك "ماركس" عندما قدّم مثال صناعة الدبابيس في مانيفكتورة في نيرنبورغ بألمانيا. فتقسيم العمل تقنيا يزيد في الإنتاجية وبالتالي نجاعة العمل بحيث تنتج أكثر ونتمكن من الضغط على كلفة الإنتاج و بالتالي غزو أسواق جديدة. وإذا كان التقسيم الاجتماعي للعمل هو استجابة لحاجة كلّ الأفراد ويوفر للعامل فرصة اندماجه في المجموعة، بحيث يحتلّ العامل موضعا مصادق عليه عبر إسناد أهلية مهنية تمثل اعترافا رسميا ومؤسساتيا بقدرات العامل وبصلاحيته الاجتماعية، فإنّ التقسيم التقني للعمل يجعل رأس المال المستثمر أكثر إنتاجية ويخدم مصلحة صاحب رأس المال دون العامل الذي لا يجني من هذه العملية إلاّ إجبارا مضاعفا لإجبار العمل وبالتالي يزيد في اغترابه.
غير أن الاغتراب الذي تحدّث عنه ماركس في مخطوطاته وفي "رأس المال" تجاوز أوقات العمل ليشمل أيضا أوقات الفراغ حيث بيّن "هاربارت ماركوز" أنّ أوقات الفراغ ذاتها أصبحت مغتربة، ولم تعد الأوقات الحرّة التي يعمل فيها العامل ما يريد بل أصبح العامل، عبر صناعة الترفيه والدعاية والإشهار، مراقبا حتى في أوقات فراغه، ذلك أن ولوج عدد متزايد من الأفراد إلى أوقات الفراغ بعد النضال النقابي، وتطوير وضعية العملة، أنتج سعي مختلف قوى سلطوية إلى توجيه ذلك نحو خدمة مصالحها، ذلك هو دور المنظمات الشبابية في النظم الفاشية والنازية أو في سياق مختلف تماما، وظيفة الترفيه التي تنظمها الشركات اليابانية. مما جعل علماء الاجتماع يتساءلون عن الوظيفة التحرّرية لأوقات الفراغ و"جون بودريار" تماما مثل "ماركوز" يبيّن أنّ أوقات الفراغ ليست إلا مواصلة للعمل لأنها حسب رأيه لا تتخلص من الإجبار الجوهري الذي يتمثل في قياس الزمن، ويلاحظ أن المجتمع الاستهلاكي يدفع الفرد بطريقة خفية إلى استهلاك أوقات فراغه عبر توجيهه لأنشطة الترفيه بحيث تصبح أوقات الفراغ هدفا للحياة وهو ما يزيد في اغتراب العمل الذي يصبحُ مجرّد وسيلة لجمع الأموال لاستهلاكها في أماكن الترفيه، وعوض أن يطوّر العامل ذاته، ويوجه اهتماماته نحو الوعي بوضعية الاستلاب التي أصبح عليها، يوجّه اهتماماته نحو الترفيه كهدف لوجوده، ولا تكون أوقات الفراغ بهذا المعنى إلا أوقات للاستعداد لعمل الغد. وهذا يعني أن تحسين ظروف العمل واختزال الوقت الشرعي للعمل يوميا وتحسين أوضاع العامل كلها عمليات، وإن تحققت تحت ضغط المطالب النقابية، فقد وقع تلبيتها فقط لخدمة مصالح أصحاب رؤوس المال لتحسين مردودية العامل أثناء عمله ولمنعه من ادخار الأموال عبر دفعه إلى الاستهلاك خاصة وأنّ صناعة الترفيه هي صناعة يشرف عليها أصحاب رؤوس المال.
ارتباط العمل بالمردودية والنجاعة وتطوير وسائل الإنتاج لم يحسّن أوضاع العمل إذن، بل زاد في اغترابه، يبدو أن العمل كميزة انسانية محكوم عليه بأن يتحرّك دائما في إطار التناقضات ففي مقابل العمل كمحدّد لإنسانية الإنسان ننظر إليه أيضا كسالب لهذه الإنسانية، وفي مقابل العمل كمحرر الإنسان من الحاجة والفاقة ننظر إليه كمولّد للاستعباد، وفي مقابل العمل كأساس للعدالة ننظر إليه كنشاط مغترب في ارتباطه بالنجاعة. وهكذا نتبين أن العمل كظاهرة إنسانية يرتبط بعوامل متنوعة ومتداخلة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وبذلك يبدو أنه من الضروري أن تتظافر الجهود لتجعل من العمل إنسانيا ونتجاوز التناقض بين النجاعة والعدالة فالعدالة تحمل معنى "المساواة والإنصاف" والنجاعة بما تحققه من ربح يتجلّى في فائض القيمة كمولد للإستغلال وتفاوت متزايد بين من يعمل والذين لا يعملون.
وهذا الواقع المغترب للعمل جعل الناس اليوم يعدلون عن الانخراط في الرؤية المقدسة للعمل بما هو مصدر كلّ قيم، خاصة وأن الاستهلاك أخذ حجما كبيرا في الحياة اليومية، بحيث أصبحت إيديولوجيا الاستهلاك مسيطرة على العقليات، والمجتمع الاستهلاكي عبر الدعاية والإشهار عوّض معيار العمل برغد العيش في إطار سعادة فردانية وأصبحت القيم الهيدونية مقياسا لكلّ الأشياء، والإنسانية التي كانت تعلم أنباءها أخلاق العمل هي ذاتها التي تساهم اليوم في اختزال العمل في ربح المال الذي يمكن الأفراد من اشتراء سعادتهم من البضائع المعروضة، فالعمل في المجتمعات الاستهلاكية، مجتمعات الوفرة ليس إلا وسيلة لجمع المال الضروري لتحقيق رغد العيش حيث أصبح الرفاه غاية الوجود الإنساني.