تابع
لم ينهزم أبو هريرة بل اكتسب جزء من كيانه ومن هنا نفهم رؤية المسعدي للمأساة : تأرجح الإنسان بين الحيوانية والألوهية وهذه منزلة الإنسان الأرضية- فلا يجد أبو هريرة الخلاص إلا بتجاوز هذه المأساة وهذا التجاوز لا يكون إلا بتخطي الدهر الذي سيظهر في خاتمة " حدث أبو هريرة قال" " في البعث الآخر".
المنتهى : البعث الآخر
قد صورت ظلمة أبا هريرة وما يشعر به من شوق إلى المطلق " فإذا عينه أشد ما رأيت شوقا إلى ما لا تراه غيرها من العيون... وكان يقول ( أبو هريرة) أليس فيكم من يحذق صنع الأصوات تحضر الآلهة وتكسر الزمان المحدود".
تنتهي به الرحلة إلى بعث أخر إلى ( معراج) تطلب فيه الغيبة فتدرك. يطلب أبو هريرة من أبي المدائن أن يخرج به يوما ليس من الدهر خارجا عن محدودية الزمان ويكون ذلك عند مغرب الشمس ( رمز نهاية مسيرة أبي هريرة). يصعدان جبلا حزيزا ينشد النهاية. حركة أبي هريرة حركة تصاعدية من الرمال إلى قمم الجبال دلالة على صعوبة الملتقى ووجود الحقيقة وتنتهي مسيرة أبي هريرة بالرضي والقبول يقول " هذا ما كنت أطلب" رحلته لم تكن عبثا بل مكنته من بناء كيانه ومفهوم هذه المسؤولية مستمد من الفكر الإسلامي الذي يفيد من النصوص الدينية تحمل الإنسان مسؤوليته وتحقيق هذه المسؤولية سعي ترجم عنه الشعر على لسان الهاتف – هاتف الغيب المسحون بمصطلحات صوفية كالحق والحب. إن علاقة الحب بين أبي هريرة والله أول نتيجة يفوز بها بعد نجاحه في القيام بمسؤوليته الإنسانية أما مصطلح الشوق فهو دافع أبي هريرة لهذه الرحلة لحاجة المعرفة فرحلته تتعطش إلى المعرفة التي لم تستجب لها أية تجربة فيجيب أبو هريرة على الهاتف بمفهوم الفناء في الله.
أما أبو المدائن فيمثل صورة من أبي هريرة في البعث الأول .وصف أبي المدائن نهاية أبي هريرة وصف غامض فنحن أمام لوحة فيها صوتان: صوت حيواني
" صهيل " وصوت بشري " صحية" إلا أن الصوت الحيواني اقترن لحالة نفسية : ألم والصوت البشري اقترن بحالة نفسية : فرح فيمكن أن يرمز بالألم إلى موت الحصان أي موت الجانب الحيواني في الإنسان ويمكن أن يرمز بالفرح إلى صعود أبي هريرة إلى السماء أي انعتاق الجانب الإلهي في الإنسان.
فلا أثر لموت أبي هريرة أ, انتحار لأن معنى الموت أو الانتحار ورد على لسان أبي المدائن "وإذا دم على الصخر" فهل يجوز المسعدي الانتحار في كتاباته ؟
إن المناجاة الصوفية في البعث الآخر لا يدل على معنى الانتحار فالانتحار في الفكر الوجودي نهاية الإيمان بعبثية الحياة. ولو أراد الانتحار كسلوك عملي لا ينتحر عند شعوره بالموت وعند الحديث عن أخته إن في " البعث الآخر" يكتمل كيان أبي هريرة لأنه وصل إلى المعرفة في أرقى مستوياتها.
وعلاوة على مفهوم الرحمة اللغوي فإن مدلول الرحمة الحضاري يفيد الغفران الذي يوحي بأن أبا هريرة قد تحول إلى عالم آخر ، عالم الخلود ويعتبر الأستاذ توفيق بكار أن الخاتمة تفتح بابين للتأويل:
1/" أنا الحق يناديك" قد يكون الحق هو الموت فالإنسان لا يدرك الحقيقة إلا عندما يموت فيكون أبو هريرة اختار الموت وهو شهيد لأن في الموت إدراكا للحق.
2/ يمكن أن يكون أبو هريرة قد فني في الحق وذاب في المطلق فخرج عن الزمان والمكاني ومن النسبة إلى المطلق ويكون قد اخترق الحدود بين الدهر والخلود وقد أصاب معنى وجوده بالقصة قصة جهاد كلل بالنجاح وتكون مسيرة أبي هريرة مأسوية إلى حديث " الجمود" إذ في البعث الآخر يفوز بعد البحث الطويل.
ويعتبر الأستاذ طرشونة في " الأدب المريد" أن فشل أبي هريرة ليس سوى نقل لحقيقة المنزلة الوجودية فإرادة بلوغ عالم المطلق في حدث أبو هريرة قال يجيلنا على جملة من التصورات الإسلامية تبعد المسعدي عن عبثية سيزيف وعن الرؤيا الوجودية الغربية فلغة النصوص صوفية في" البعث الآخر" أساسا.
وعلي هذا الأساس نتبين بناء " حدث أبو هريرة قال" الخارجي :
1- التمهيد: تقديم شخصية أبي هريرة التقليدي(بعث أول)
: تحديد الإطار المكاني : الخروج من مكة إلى الصحراء
: تحديد الإطار الزماني : الفجــــر
2- الأزمة: تساؤلات البطل أبي هريرة عن إدراك المعرفة : مغامرة وجودية
تتناول جميع أطوار حياته.
3- الحـــل: معراج أبي هريرة : التجربة الصوفية(البعث الآخر)
"فحدث أبو هريرة قال" من الأدب الرمزي الذهني. أحداثها ليست بواقعية. كل الإحداث ترمز إلى مسيرة أبي هريرة الوجودية من المبتدأ إلى المنتهى هذه الإحداث تقمصتها شخصيات منها الشخصية الرئيسية البطل أبو هريرة وهي ترمز إلى الإنسان في تحمل مسؤوليته الإنسانية في الوجود. ومنها الشخصيات الثانوية التي ترمز إلى أبعاد الإنسان من الحس إلى الروحانيات (ريحانة و ظلمة). هذه الإحداث عن طريق شخصياتها تستقطبها أطر مكانيةتتناسب وسلوك أبي هريرة في مسيرته من انغلاق إلى انفتاح حسي إلى الاقتراب من السماء إلى الانعتاق ( مكة – الصحراء الرملية- المجالس الخمرية الدير في الجبل الجبل الحزيز ). كل هذه المسيرة ستحدد بأطر زمانية داخلية خاصة منها ما يرمز الى بداية مغامرة أبي هريرة الوجودية إلى منتهاها ( من الفجر إلى مغرب الشمس).
إن معطيات السرد من أطره وشخوصه لا تقصد لذاتها وإنما استعملت ألفاظها للدلالة على مفاهيم معنوية ذهنية فانتمى هذا الأثر إلى الأدب الرمزي الذهنيحيث يقع تجاوز المدلول المادي إلى المدلول المعنوي وهذا التجاوز هو مذهب المسعدي في كتاباته حيث يصرح " ملتزم الرمز اجتهادا" فيجعل الشخصية خلاصة الشخصيات.
هذا الأدب الرمزي من صنف الرمزية الوجودية إذ اتبع المسعدي مراحل الوجودية الغربية الأربع : علاقة الإنسان بذاته وبالكون وبالمجتمع وبالله تأثرا بها لكنه تصرف فيها ووظفها وفق هويّته الإسلامية : وهو إلى ذلك يلتزم بخصوصيات هوتيه العربية رغم نزعته الإنسانية . يظهر ذلك في الرجوع إلى التراث العربي كزمن خارجي فبدت البيئة عربية بصحرائها وبأسماء مدنها وبنمط شخصياتها خاصة منها البطل "أبو هريرة " وبالشكل الأدبي " الأحاديث" وبأساليبه العربية التي تذكرنا بأساليب أشهر الكتاب القدامى.
دليلة رداوي باللافي
أستاذة عربية
المصدر : " حدث أبو هريرة قال"
المراجع :- تقديم الأستاذ توفيق بكار" لحدث أبو هريرة قال"
- الأدب المريد للأستاذ محمود طرشونة
تضمين بعض التعابير
منقول