العالمي، العولمي: شبه الاسم و شبهة الدلالة:
يمكن أن نباشر تحديد العالمي على جهة كونه نزوع الإنسان إلى أن يكون كونيا، نزوع قائم على قاعدة التعدد و التنوع و الاختلاف علامة ثراء الإنساني و غناه، نزوع يخاطب الإنساني فينا من حيث نحن كل جامع ثري باختلاف أجناسه وتنوع أوطانه و تعدد ثقافاته. و على هذا الأساس يمثل مفهوما ذو خصوصية أنطولوجية / أنثربولوجية. العالمي قائم كذلك حيث كونية القيم و المثل الإنسانية العليا، فهو بهذا المعنى مفهوم ذو طابع ايتيقي ينقلنا من حيز فردانيتنا إلى مجال كونيتنا. العالمي؛ وجودا و قيمة يمثل نزوعا إذن فهو مطلب بشري، مطلب في وحدة الوجود و مطلب في وحدة القيم، من جهة كونه مطلبا فهو غاية الغايات. على هذا النحو كان هذا المطلب غاية الفيلسوف من نظام المدينة(Polis) عند اليونان إلى الإنسان الشمولي في الفلسفات المعاصرة. فمن إجابة سقراط عن سؤال من أي بلد هو؟(3) إلى تصورات الرواقيين عن البشر كمواطني عالم واحد، إلى المحايثة السبينوزية و تصوره عن الجوهر الواحد، إلى مشروع كانط في السلم الدائمة إلى المطلق الهيغلي و أممية ماركس كان العالمي طموح الفلاسفة ومطلبهم إلى حد يجوز لنا أن نقول معه أن العالمي كمطلب ايتيقي سليل الفلسفي أو هو الفلسفي ذاته إذا كانت الايتيقيا هي الفلسفة بامتياز. فالفلسفة هي الفضيلة ، لو جاز لنا أن نغض الطرف عن الفويرقات الدلالية بين الاتيقيا والأخلاق. وفضيلة الفضائل هي أن يوجه و عينا و سلوكنا بمطلب الإنساني في عالميته وكونيته.الذات بذاتها و بالآخر، آخرها لا الآخر Autre بدلالة الغريبétranger بل بدلالة الأخر / القريب. في دلالة العالمية وحدة المتنوع و المختلف وحدة الالتقاء، التقاء الوجه بالوجه لا بدلالة التواجه بل بدلالة التعرف أو المعرفة و العرفان بما في العرفان من دلالة"العرفان بالجميل" و "جميل" الذات على آخرها هو جميل الإنسان على الإنسان، هذا الجميل الذي ليس له من فضاء سوى فضاء الكونcosmos فضاء الكونيةcosmotisme حيث وجود الإنسان في الكون هو وجود تعلق به معاني الإنسانية حيث "ليس أجدى للإنسان من الإنسان" على حد عبارة ريكور المأخوذة عن ميرلوبونتي، إنسانية الكائن في كونيته أي في خروجه من قمقم الأنانة و انفتاحه على الغيرية و اعترافه بحق الآخر في أن يكون آخرا. في فضاء العالمية يلتقي المحلي و العالمي على جهة التجذر في التربة الوطنية مع الانفتاح على كونية الكون الذي لولاه لا معنى لما هو محلي أو وطني أو شخصي. في فضاء العالمية يلتقي الإنسان بالإنسان لقاء لا معنى لإنسانيته خارجه.
إن هذا اللقاء الإنساني المختلف هو لقاء اللاتماثل، فاللاتماثل هو الشرط الأساسي للنظام و هو واقعة الطبيعة. فكأن اللاتماثل هو القدرية الوحيدة في الطبيعة بل لعلها نعمتها. فجميع الكائنات الحية – لو جاز لنا أن نتكلم بلغة البيولوجيا- تضمن بقاءها و إعادة إنتاج ذاتها بالانفتاح على آخرها، يقول فرنسوا جاكوب:" إذا كان يجب أن نكون اثنين معا لكي نعيد إنتاج ذاتنا فان ذلك لكي ننتج آخر مغاير لنا"(4) إن الذي سيخلدني هو شخص آخر مختلف عني، فألانا هو الذي ينتج الآخر واختلاف الآخر لا غربته هو شرط البقاء و هذا الإنتاج ليس مجرد فعل إنتاج بيولوجي ناتج عن غريزة جنسية بل هو كذلك إنتاج وإعادة إنتاج ثقافي. فرغبتي في إنتاج نفسي هي التي تفترض مني تفاعلا مع الآخر لا نتاج آخر هو ثالثنا لكنه ليس الثالث المرفوع.
إن مشروع إعادة إنتاج الذات هو مشروع التمعين في علاقة دلالية لان الأمر لا يعدو أن يكون عملية لتوحد المختلف و اللاتماثل. فلقاء اللاتماثل هو الوحيد اللقاء المنتج للمعنى، أما لقاء التماثل فهو لقاء عقيم ينفي اللقاء ذاته ليتحول إلى لعبة للتشابه و المجاملة أكثر منها لقاء إرادات تسعى إلى الإنتاج.
إن لقاء الأنا بالآخر ليس لقاء نفي و ذلك لأن كل واحد منها و هو يسعى إلى تأكيد أناه ينتج الآخر فيه ولو على جهة السلب، فعندما نسلب الآخر فينا فنحن نراكمه داخلنا مجموعة مسلوبات، لذلك يؤدي تفاعل الأنا . الآخر إلى إنتاج ثالث هو بدوه متكثر و مغاير للاثنين فجدلية النفي و التأكيد هي وحدها جدلية اللقاء المثمر، لقاء اللا تماثل. على هذا الأساس فان كل مشروع يؤكد على التراتبية والهرمية و الهيمنة في علاقة الإنسان بالإنسان هو مشروع منافي للطبيعة الإنسانية، فالعقاب و السجن و إرادة الصهر والدمج كلها آليات و إرادات تنفي كينونة الكائن من جهة أنه كون و كل على هذا الأساس يعتبر العديد من الفلاسفة و الانتربولوجيون أمثال شابيرا و مرقان Morgan أن القوة ليست ملازمة للنظام لأنها ليست من طبيعة الإنسان. من هنا يمكن أن نفهم قيمة المشروع الابستيمولوجي لفلاسفة نادرون أمثال فوكو وجاك لاكان و دريدا و دولوز عندما قاموا بقلب الاتجاه البنيوي الذي يؤكد على وجود بنية واحدة لكل الأشياء وأن المختلفات لها أصل واحد يتكرر في الظواهر . فقد قام هؤلاء بتفكيك البنية على اعتبار أن البنية ليست سلوكا ثابتا و أنها شيئا ذهنيا ليس له علاقة بالسلوك. من هنا نفهم رفض فوكو للنظام باعتباره في الأصل زائف.في فضاء العالمية إذن لا معنى للتماثل ، بل لا معنى للكونية و للذات إلا داخل هذا المجال اللاتماثلي. لكن هل تتناسب هذه المعاني مع دلالة العولمة حتى تكون بمثابة الواقعة الطبيعية التي لا مفر من الخضوع لها و القبول بها و الترويج لنمط تصورها عن علاقة الأنا بالآخر الكونية بالخصوصية، الإنسان بالإنسان؟ إن الإحراج الذي سببه لفظ العولمة للفلسفة هو إحراج فعلي و حقيقي إلى الحد الذي يمكن معه القول أن الفلسفي في حد ذاته صار مهددا، إحراج وجود الفلسفة و مشروعية هذا الوجود وجدواه- فأي جدوى و أي فعالية تقدمها الفلسفة كمبرر لوجودها في زمن ليس فيه من مشروعية إلا لسرعة التداول ،تداول الأموال ،تداول المعلومة ،تداول المنافع . إحراج فهم العولمة هو إحراج تأصيل المفهوم ،إحراج مصير الفلسفة ومستقبلها في زمن صار فيه المستقبل أشد الأشياء قربا وأبعدها في نفس الآن.من شأن تأصيل المفهوم أن يرفع عديد مواطن اللبس وأن يحدد ليس وجهة اللفظ فحسب بل كذلك وجهة إمكان حديثنا في العولمة ،فقد استعمل اللفظ من قبل منظَري العولمة في شبكة علامات توحي كلها بوحدة المنافع والمصالح