الاساليب الفنية لابن هانئ
هذا ماجمعته من دراسات متعددة حول الأدب العربي وما جاء فيها حول ابن هانيء
تشابه الأغراضلا غرابة أن نجد في الأدب – أي في الشعر المدحي خاصة – تشابها في الأغراض الجهادية الحماسية، يعكس هذا التشابه في الوضع
العسكري : فالمتنبي يشيد بجهاد سيف الدولة، وابن هانئ المغربي – متنبي الغرب كما يقولون – يتغنىّ بجهاد المعز الفاطمي وإن كان بغمط
جهاد الناصر الأموي، بل يتهمه بالتواطؤ مع أعداء الدين."( ).
ولعل سؤالا يستحق الإثارة في هذا السياق يتعلق بدواعي اقتران الحماسة بأغراض شعرية أخرى دون أن ترتقي إلى غرض مستقل بذاته، بل
إننا نرى أبا تمام يجهد نفسه في اقتناص شتيت من الأبيات ليجمعها في ديوان واحد هو ما عرف بديوان الحماسة، دون أن يتحوّل ذلك إلى
مرتبة القصائد المطولة المخصوصة بمعاني البطولة والقوة الحربية دون سواها، بل إن الغالب على الأمر لا يعدو أن يكون استجابة مباشرة
لأحوال سياسية طارئة، وما رسخ في المدونة الشعرية شأن غيره من الأغراض المعروفة.
--------------------------
ولعل من أبرز التقاليد التي استمرت في الشعر الأندلسي، تصدر المقدمة الطللية بعض مدائح الشعراء الأندلسيين، فقد افتتح ابن هانئ بعض
مدائحه بالوقوف على الأطلال وقوفاً تقليدياً لكنه قصيرٌ، فهو ينظر إلى ديار الأحبة التي أقفرت من السكان والإبل، ويتذكر رحيلهم بعد أن
كانت آهلة بهم، ويعود بذاكرته إلى أيامه الماضية، حيث كان الناس يجتمعون فيها، كل يحث ناقته ويرمون الجمار، ويقدمون الهدايا
والذبائح، وهو الآن لا يمتلك من تلك الأيام إلاّ ذكرى ماضٍ سعيد.
أقوى المُحَصّبِ من هادٍ ومن هِيدِ ********** وودّعونَا لِطيّاتٍ عَبابيدِ
ما أنسَ لا أنسَ إجفالَ الحجيجِ بنا ********* والرّاقصاتِ من المَهْريَّة القُودِ
مثلَ وجدي بريَعانِ الشبابِ وقَدْ ********** رأيتُ أمْلودَ غُصْني غيرَ أملودِ
ورابني لَوْنُ رأسي إنّه اختلفتْ ********** فيه الغمائمُ من بيضٍ ومن سودِ ( )
لقد صوّر الشاعر في مطلع قصيدته أطلال الأحبة المقفرة، ثم انتقل إلى تصوير نفسه متغلغلاً في أعماق النفس البشرية التي تحزن وتكتئب
من حلول الحادثات، ومن خلال بعض المشاهد النفسية، استطاع الشاعر أن يربط ربطاً وثيقاً، بين المقدمة والمدح.
إن تبكِ أعينُنا للحادثاتِ فقدُ ********** كَحلننا بعد تغميضٍ بتسهيدِ
في اللهِ تصْديقُ ما في النفس من أمَلٍ ******** وفي المُعِزّ مُعِزّ البأس والجُود ( )
لقد اتبع ابن هانئ النهج التقليدي في استهلال بعض مدائحه بوصف الطلل، لكنه لم يوفر لمقدمته، كثيراً من مقوماتها، كما سنها شعراء
الجاهلية ويتجلى الفرق واضحاً، إذا عدنا إلى إحدى المقدمات الجاهلية كقول زهير:
أمن أُمِّ أوفى دِمنةٌ لمْ تَكَلَّمِ ********** بجومانةِ الدرّاج فالمُتثلّمِ
ديارٌ لها بالرّقمتين كأنّها ******** مراجعُ وشمٍ في نواشر مِعْصَمِ
بها العينُ والآرامُ يَمشَينَ خِلفةً ******** وأطلاؤها ينهضنَ من كل مجثَمِ
وقفتُ بها من بعد عشرين حجّةً ********* فلأيا عرفتُ الدار بعدَ توهّمِ
أثافيَّ سفعاً في معرَّسِ مِرجَلٍ **** ونؤياً كحوضِ الجُدّ لم يتثلّمِ( )
فقد حرص زهير على أنْ يوفر لمقدمته طائفة من رسوم الأطلال ومقوماتها، الفنية، فحدّد مواطن الديار، ورسم لها صورة دقيقة، وسمى
صاحبتها، وصوّر ما حل بها من الحيوان تصويراً بديعاً، وذكر وقوفه فيها وما مرّ على بعده عنها من زمن، ثم صوّر نفسه وقد ساورها
الوهم واشتبهت عليها الديار، فلم تتبين حقيقتها إلاّ بصعوبة وعسر، وبعد إطالة في المقدمة قفز إلى ممدوحه دون أن يجد رابطاً معنوياً بين
المقدمة والمدح.
أما ابن هانئ فقد غلّب جانب التصوير النفسي على وصف الطلل وآثاره، وربط بين مقدمته وغرض المدح، وكأنّه صاغ هذه المقدمة لتكون
تمهيداً ملائماً للمدح لما بينهما من ترابط معنوي عميق.
وفي قصيدة أخرى يمدح فيها جعفراً ويحيى ابني علي، فيطلب من صاحبيه أنْ يقفا على أطلال الأحبة، أو يمشيا ببطء لعله يتمكّن من البحث
عن أحبته الذين لم يجدهم:
قِفا فلأمرٍ ما سرَيْنا وما نَسْري ******** وإلاّ فمشياً مثلَ مشْي القطا الكُدْري
قِفا نتبيّن أين ذا البرق منهُمُ ********* ومن اين تسري الرّيح عاطرةَ النَّشْر
النَّشْر
وإلاّ فذا وادٍ يسيلُ بعنبرٍ ****** وإلاّ فما تدري الركابُ ولا ندري( )
ثم ينتقل إلى تصوير مشاعره، فهو يحن إلى تلك الأرض بكل ما فيها من ترابٍ وظباء وآثار، ويوَدّ لو يبقى في تلك الديار التي تذكره بأيامه
الماضية، فقد ابتلته الأيام بنار الفراق، وكوته بلظى البعد، ولكن ما يعزيه عن فراق الأحبة، أنّه راحل إلى ممدوح كريم يرجو منه كل الخير
والعطاء:
فَهَلْ علِموا أنّي أسيرٌ بأرضِهِمْ ******** ومالي بها غَيرُ التعسُّفِ مِنْ خُبرِ
ومن عجبٍ أنّي أسائِلُ عنهمُ ******** وهُمْ بينَ أحْناءِ الجوانحِ والصدرِ
وما زِلْتُ تَرميني اللّيالي بنَبْلِها ********* وأرمي اللّيالي بالتجلُّدِ والصَّبْرِ
وأحمِلُ أيّامي على ظَهرِ غادةٍ ******* وتَحْملني منها على مركَبٍ وعْرِ
وآليْتُ لا أُعطي الزّمانَ مَقادَة ******* إلى مثلِ يحيَى ثم أُغضي على وَتْرِ( )
فابن هانئ يصف الأطلال، لكنه ليس أسير المعاني التقليدية، ومقومات الطللية الجاهلين، وهو لا يصف النؤي والأثافي والعرصات، ولا
يرى بعر الآرام، ولا ينتقل إلى ممدوحه عبر رحلة يصفها وصفاً مطوّلاً، وإنما ينتقل انتقالاً سريعاً بعد مقدمة تقليدية الفكرة، جديدة المعنى.
وقد كان ابن هانئ محباً لتقليد الشعر العربي، محافظاً على نهج القديم، لذلك افتتح بعض مدائحه بالمقدمات الغزلية، كمقدمة قصيدته في مدح
جعفر( ) ابن علي التي يصف فيها محبوبته وصفاً مفصلاً ودقيقاً، مستمداً ذلك من أوصاف الشعراء الجاهليين:
أَ
حْبِبْ به قنصاً على مُتَقَنِّصِ ******** وفريصةً تهدى إلى مُستَفْرِصِ
تدنيكَ من كبدٍ عليكَ عليلةٍ ********* وتمدّ مِنْ جيدٍ إليك مُنَصَّصِ
شعثاء تَسْرِي في الكرى بمحاجرٍ ***** لَم تكتحل وغدائرٍ لَمْ تعقَص
ثَقُلَتْ رواجِفُها وأُدْمِجَ خَصْرُها ***** فأتتكَ بين مُفعَّم ومخمَّصِ( )
ويجسد الشاعر أحد مقومات المقدمة الغزلية عندما يصف محاسن محبوبته، وسروره لقضاء وقت محبب بجانبها إلى أن سحب الليل خيوطه،
ونشر الفجر ملاءته وقد كان هذا اللقاء عفيفاً بعيداً عن الفحش والابتذال والدنايا.
ثم يفتخر الشاعر بنفسه ليستطيع أنْ ينتقل إلى المدح انتقالاً موفقاً بقوله:
ذَرْني ومَيدانَ الجيادِ فإنّمَا ********** تُبْلى السوابقُ عندَ مَدِّ المِقْبَصِ
شارفْتُ أعنانَ السّماءِ بهِمّتي ********** ووطِئْتُ بَهْرامَ النجوم بأخمَصي
مَن كان قَلبي نثلُهُ لم يَهتَبِلْ ********* أو كان يحيىَ رِدْأه لم ينكِصِ( )
وفي هذه المقدمة تتجلى مجاراة ابن هانئ للتقاليد الشعرية القديمة، فكانت مقدمته الغزلية ظاهرة التكلف، استمدّ عناصرها من الموروث
القديم، فصفات فتاته لا تختلف عن أوصاف فتيات الشعراء الجاهليين، وكأن الشاعر يسلك هذا الطريق كي لا يشذ عن العرف الجاهلي القديم،
إلا في انتقاله الموفق إلى المدح إذ استطاع أن يربط ربطاً معنوياً بين المقدمة وغرض المدح، بينما انتقلت أغلب القصائد الجاهلية دون رابط
بين المقدمة والغرض.
وقد مَهَّدَ ابن هانئ لقصيدة في مدح أبي زكريا يحيى بن علي الأندلسي، بمقدمة غزلية يتساءَل في مستهلّها عن مصدر البرق الذي يشع، مثل
نور محبوبته المضيئة كالشمس:
أمِنْكِ اجتْيِازُ البرْقِ يلتاحُ في الدُّجى ***** تَبَلَّجْتِ من شرقيّهِ فتبلّجا
كأنّ به لَمّا شَرى منكِ واضحاً ***** تبسّم ذا ظَلمٍ شنيباً مُفَلَّجا( )
ثم يجسد الشاعر أحد مقومات المقدمة الغزلية الجاهلية، عندما يصور حنينه إلى مواطن محبوبته، فرائحة تلك الديار العبقة، تذكره برائحة
صاحبتها الشذية، التي أسرت لبّه بنعومتها ولينها، وحمرة خدّيها، التي استهوت قلوب العاشقين.
إنه يتغزل بمحبوبته غزلاً عذرياً عفيفاً، فيكتفي بالنظرة التي تروي ظمأه، ويحسد العقد الذي يلامس نحرها، والخلخال الذي يلاصق رجلها:
مواطئُ هِنْدٍ في ثَرىً مُتَنَفِّسٍ ******* تَضَوَّعَ مِنْ أردانِها وتأرْجا
مُنَعَّمَةٌ أَبْدَتْ أسيلاً مُنَعَّماً **** تضرّجَ قبلَ العاشقين وضرّجا
إذا هَزّ عِطْفَيْها قوامٌ مُهَفْهَفٌ ****** تَداعى كثِيبٌ خَلفَها فَتَرجْرَجا
أنافِس في عِقْدٍ يُقبّلُ نَحْرَها ****** وأحسُدُ خلخالاً عليها ودُمْلُجا
وأسْعَدَني مُرْفَضُّ دمعي كأنّها ***** تَساقَطُ رأدَ اليوْمِ دُرّاً مُدَحْرَجا( )
ثم يتابع تقاليد المقدمة الغزلية فيرحل ليلاً محتملاً أخطار السفر في الصحراء ليصل في نهاية الرحلة إلى ممدوحه، وبذلك تبدو المقدمة الغزلية
صدراً ملتحماً بجسد القصيدة المتكامل.
ويقدم ابن هانئ أيضاً لقصيدة في مدح جعفر بن علي بمقدمة غزلية، حاول أن يوفر لها أكثر مقوّمات المقدمة الجاهلية الغزلية، فوصف
محاسنها الجسدية، ثم عاتبها عتاباً رقيقاً على هجره، وإخلافها بالوعد، وتمنى لو يجمع الله الشتيتين، ويبعد عنهما المصائب:
لمن صَولجانٌ فوقَ خدّكِ عابِثُ ****** ومَن عاقدٌ في لحظ طرفكِ نافُ
أريدُ لهذا الشمل جمعاً كعهدِنا ****** وتأبَى خطوبٌ للنوى وحوادِثُ
لئن كان عشقُ النفس للنفس قاتلاً ****** فإني عن حتفي بكفيَ باحِثُ( )
ولعل هذه الالتفاتة العذبة و لتصوير ما يدور في أعماقه، تذكرنا بجميل بن معمر وهو يحلم بلقاء محبوبته قائلاً:
وقَدْ يجمعُ الله الشتيتين بَعْدَما ****** يظنّان كُلَّ الظّنِّ أنْ لا تلاقيا( )
وتمتزج في هذه المقدمة الملامح المادية بالملامح العذرية و لتكون صورة جميلة للغزل في مقدمة المدائح الأندلسية.
ويستمد ابن هانئ الخيوط الأولى من المعين الشعري القديم و لكنه ينسجه نسجاً جديداً يناسب البيئة التي يعيش فيها.
وتتجلى المحافظة على المقدمة الغزلية التقليدية وفي مقدمة قصيدة يمدح فيها المعز لدين الله، وفيها ينهل من نبع الالفاظ الجاهلية ومعانيها.
فمحبوبته ميّاسة القد تتدافع في مشيتها كالجدول الرقراق، أو كحيّة تتموّج أو ككثيب الرمل، وهي حسناء تتزين بالأقراط والخلاخل وتسوك
أسنانها، فيقبل المسواك فمها كما قبل فم الفتاة الجاهلية من قبل( ).
ويرسم الشاعر لمحبوبته صورة تشابه الصورة التي رسمها شعراء الجاهلية من قبل فهي فتاة «تامة الخلق، أسيلة الخدّين، فاتنة العينين، نحيلة
الخصر، مكتنزة الجسم، مهتزة الردف، مزركشة الثياب، تنوله مرة وتُمطِلُه مرة، فيهيم بها، ويُديم التفكير فيها، ولا يصبر على بعدها..»( ).
وفي مقدمة قصيدة يمدح فيها يحيى بن علي، يشكو من ظلم الحب، وجور المحبوبة عليه، مما جعله يأنس لسجع الحمام الحزين، وينوح معه،
فقد فرّق الوشاة بينه وبين محبوبته، وأضرموا نارُ الفراق التي تحرق القلوب:
وفي البَيْنِ حَرْفٌ مُعجَمٌ قد قرأتُهُ ***** على خدّها لو أنّني منه سالم
لَياليَ لا آوي إلى غَيرِ ساجِعٍ ***** ببَينِكِ حتى كلُّ شيءٍ حَمائم
ولمّا التَقَتْ ألحاظنا ووُشاتُنا ***** وأعلَنَ سِرُّ الوَشي ما الوَشيُ كاتم( )
ويبرز الشاعر في مقدمته ظاهرة الحوار، التي تجلت في كثير من المقدمات الغزلية القديمة ابتداءً من امرئ القيس وحتى عمر بن أبي
ربيعة، وإلى عصر ابن هانئ الذي ضمن حواره صورة نفسية تظهر خوف المحبوبة وقلقها، مثلما خافت فتاة عمر بن أبي ربيعة من قبل:
قالت قطاً سارٍ سمعتُ حَفيفَهُ ***** فقلتُ قلوبُ العاشِقينَ الحوائم( )
ويلتفت الشاعر التفاتة سريعة إلى الغزل المادي، فيتمنى أن يحل مكان المسواك ليتذوق عذوبة ريقها، وحلاوة رشفها:
وما عَذُبَ المِسواكُ إلاّ لأنّهُ ****** يُقبّلُهَا دُوني وإنّي لراغِم
وقلتُ لـه صِفْ لي جَنى رَشَفاتِها ***** فالثَمَني فاها، بمَا هو زاعم( )
ويختلف نهج ابن هانئ في مقدماته الغزلية بين مقدمة وأخرى و ففي هذه المقدمة يقترب في أسلوبه من أسلوب عمر بن أبي ربيعة، فيتبع
أسلوب الحوار، ويتحدث عن المسواك والقبلات والأوصاف الجسدية، لكنه لم يسف، وإنما بقي حسن الخلق لطيف الطبع.
وتارة يبكي ويذرف الدموع لفراق المحبوبة، وصورة الغزل الباكي والهيام قد رسمها شعراء الجاهلية و ووضحوا معالمها، فكانوا «يفسحون
المجال في مقدماتهم الغزلية للحديث عن هيامهم بمحبوباتهم، وما يقاسون من الآلام في حبهم لهن أثناء انفصالهم عنهن»( ).
ويمزح ابن هانئ في مقدمة قصيدة يمدح بها يحيى بن علي، بين الغزل والمدح المباشر، فهو لا يفرّق بين فعل سهام العيون، وفعل السيوف،
وبين طعم الخمر، وطعم الرّيق بقوله:
فَتَكاتُ طَرْفِكِ أم سيوفُ أبيكِ ************* وكؤوسُ خمرٍ أم مَراشفُ فيكِ
أجلادُ مُرْهَفَةٍ وَفَتكُ مَحاجِرٍِ ************* ما أنتِ راحمةٌ ولا أهلوكِ
ولوى مُقبَّلَكِ اللّثامُ وما دَرَوا ***************** أن قد لَثمْتُ به وقُبِّلَ فُوك
فضَعي اللِّثامَ فقَبْل خَدّك ضُرّجَتْ ********* راياتُ يحيى بالدّم المسفوك( )
فقد افتتح ابن هانئ بعض مدائحه بوصف الظعن متبعاً بذلك النهج الجاهلي التقليدي، فوصف في قصيدة في مدح المعز الفاطمي، الحسناوات
الراحلات داخل الهوادج، وعدّدَ الأماكن التي كانت تسكن فيها المحبوبة، لكنه لم يطل الوصف، بل رسم ذلك من خلال إشارات سريعة،
سرعة سير الظعائن وهي تجتاز الأماكن واحداً تِلْوَ الآخرِ:
أقولُ دمىً وهي الحسانُ الرّعابيبُ ********** ومِنْ دونِ أستارِ القِبابِ محاريبُ
نَوىً أبعدَتْ طائيةً ومزارَها ********* ألا كلُّ طائيّ إلى القلبِ محبوبُ
سَلوا طيّءَ الجبالِ أيْنَ خيامِها ********** وما أجأُ إلا حصانٌ ويعبوبُ( )
ولعل البيئة الحضرية التي يعيش فيها الشاعر و وبعدها عن البادية، ونوقها وهوادجها وكان لها أثرٌ في قِصَر وصف الظعن، والبعد عن
التفصيل، فالشاعر يجمع في وصفه بين الأماكن والخيل والفرسان، وكأنه يتعجل الأمر، ليصلَ إلى وصف حالته النفسية، وما تركه الفراق
في نفسه من ألم وحزن:
وما رَاعَني إلا ابنُ ورقاءَ هاتفٌ ********* بعينيهِ جَمْرٌ من ضلوعيَ مَشْبُوبُ
وقد أنكَرَ الدّوح الذي يتسظلّهُ ********** وسحَتْ لـه الأغصان وهي أهاضيبُ
وَحَثَّ جناحيه ليخْطَفَ قَلبَه ***** عِشاءً شذانيقُ الدجى وهو غربيبُ
ألا أيّها الباكي على غير أيكِهِ ********** كِلانا فريدق بالسماوَةِ مَغلوب
هَلُمَّ على أنّي أقيكَ بأضْلُعي ******* فأمِلكُ دَمعي عنْكَ وَهْو شآبيب( )
ويبدو اهتمام الشاعر بالتصوير النفسي أكثر من اهتمامه بوصف تلك الظعائن، لأنه لم يرها إلا من خلال صور الشعراء القدماء، وهي صور
بعيدة العهد عن واقع البيئة التي يعيش فيها ولوكن حب الأندلسي لتقليد المشارقة، وتمسكه بالنهج الجاهلي في الشعر، أدى إلى استمرارِ مقدمة
الظعن وظهورها في صدور بعض المدائح الأندلسية.
وقد رسم الشاعر لوحةً متقنةً لرحيل الأحبة، مزج فيها بين مشهدين مشهد الفراق بما فيه من هوادجً وقبابٍ وخيلِ وفتيان وفتيات، ومشهد
الحزن بما فيه من ألمٍ دفينٍ ودموعٍ وآهاتٍ تثيرها الذكرى.
ومن خلال هذا المشهد الحزين يحسن الشاعر الانتقال إلى المدح مستخدماً أسلوب العطف الذي ربط ربطاً محكماً ووثيقاً بين المقدمة
والغرض:
فَلا شَدْوَ إلاّ مِنْ رنيينك شائِقٌ ********* ولا دَمعَ إلأّ من جفوني مسكوبُ
ولا مَدْحَ إلاّ للمعِزّ حقيقَةً ********** يُفَصَّلُ دُرّاً والمديحُ أساليبُ( )
ويستهل ابن هانئ كذلك قصيدة في مدح جعفر بن علي بمقدمة يصف فيها ظعن أحبته الراحلين وهو يأسف لفراقهم ويغضب من حُداةِ إبلهم،
لأنه يعدّهم سبباً من أسباب الرحيل ويحن إلى قباب أحبته الحمراء التي تضم بداخلها قلوباً تذوب حباً وشوقاً:
أحْببْ بتيّاكِ القِبَابِ قباب *********** لا بالحُداةِ والرّكاب ركابا
فيها قلوب العاشقينَ تخالها ********** عَنَماً بأيدي البيضِ والعُنّابا( )
وقد أشار الدكتور وهب رومية إلى هذه الظاهرة عندما قال:
«ويلتفت فريق من الشعراء إلى حُداة الرّكب... كأنّما ينقمون عليهم هذا الرحيل الموجع بالأحباب، ومازلت أظن أنّ الشعراء قد ظلموا هؤلاء
الذين يدفعون العشق والوئام إلى دار غريبة وقوم أغراب..»( ).
ويصور ابن هانئ مشاعره وقد رحل الأحبة وهو عاجز عن وادعهم خشية اللوم والاتهام بالتصابي:
واللهِ لولا أنْ يُسفّهني الهوى *********** ويقولَ بعضُ القائلينَ تصابى
لكَسَرْتُ دُمْلَجَها بضيق عناقِها ********** ورشفْتُ من فيها البَرودِ رِضابا( )
ثم ينتقل إلى تصوير رحيل الشباب وحلول المشيب ليغني المقدمة ويقوّي إحساس الشاعر بلوعة الفراق، فرافق الأحبة وفراق الشباب:
وإذا أردتَ على المشيبِ وِفادَةً ********* فاجعل إليه مُطيّك الأحقابا
ماذا أقول لِرَيْبِ دهرٍ جائرٍ ******** جَمَع العُداةَ وفرَّقَ الأحبابا
لم ألقَ شيئاً بعدكم حسَناً ولا ***** مَلِكاً سوى هذا الأغرِّ لُبابا( )
ويحسن الشاعر التخلص إلى موضوعه بقدرة فنيّة رائعة، إذ يربط بين المقدمة والموضوع بعرضه لمشاعره فلم يبقِ له من أمل إلا الملك
الأغر.
وقد امتدت يد الطبيعة لتمسك بمقدمات قصائد المديح في ديوان ابن هانئ، ففي مقدمة قصيدة في مدح المعز لدين الله الفاطمي يصوّر الشاعر
بعض مشاهد الطبيعة، فالبرق يومض كحدّ السيف والغمامة تهتز راقصة، والريح تهب معطرة الأنسام، تحمل رسائل المحبين المغلفة بالحب
والوجد.
هل كان ضمّخ بالعبير الرّيحا ***** مُزْنٌ يُهَزُّ البرقُ فيه صَفيحا
تُهْدي تحيّاتِ القُلوبِ وإنّما ***** تُهدي بهنّ الوجْدَ والتّبْريحا
شَرِقَتْ بماء الوَرْدِ بَلّلَ جَيْبَها ***** فَسَرَتْ تُرَقْرِقُ دُرّه المنضوحا
بل ما لهذا البرق صِلاّ مُطرِقاً ******* ولأيّ شمْلِ الشائمين أُتيحا( )
ويربط الشاعر بين ومضات البَرْق، وخفقات القلوب، التي تنتظر عودة أحبتها، فالبرق والتغريد قد أدخلا الأرق على نفس الشاعر و وحرماه
نوم الليل، فهو حزين كئيب لفراق أحبته فبعد فراقهم أظلمت الدّنيا أمام عينيه.
بِتْنا يؤرقُنا سَناهُ لَمُوحا ********* ويشُوقُنا غَرَدُ الحمامِ صَدوُحا
أمُسَهَّدَيْ ليلِ التِّمامِ تعالَيا ******** حتى نَقومَ بمآتم فَتَنُوحا
فلقد تجهمني فِراقُ أحبّتي *** وغدا سَنيحُ المُلهياتِ بَريحا( )
فالشاعر لا يصف الطبيعة وصفاً جامداً، وإنّما يدخل إلى وصفه عنصر الإحساس إذ يمزج بين وصف عناصر الطبيعة، وتصوير ما يختلج
في نفسه من مشاعر الفرقة والبعد عن الأحبة، والحزن على فراقهم، ولا يخفف من آلامه إلا وصوله إلى ممدوحه ممتطياً صهوة الغمام.
وتتجلّى قدرة الشاعر على الانتقال إلى المدح في استخدام الغمام لينقله إلى ممدوحه وبذلك يكون للمقدمة أثر في تقوية القصيدة وإغنائها،
ويكون لعناصرها أثر في الربط بين الفكرة والأخرى، وبهذا يتحقق مبدأ الانتقال المتصل الذي سلكه أبو تمام في شعره ( ).
وفي قصيدة أخرى يعرض ابن هانئ مشاهد في وصف الطبيعة، فالمطر تساقط كلؤلؤ جميل وتدور في السماء معركة بين الريح والسحابة،
تنتصر فيها الريح، وترمي بالسحابة نقطاً على الأرض:
ألؤلؤ دَمْعُ هذا الغيثِ أم نُقَطُ ما كان أحْسَنَهُ لو كان يُلتَقَطُ
بينَ السّحاِب وبينَ الرّيحِ مَلحمَةٌ قعاقِعٌ وظُبىً في الجوِّ تُخْتَرَطُ( )
ويرسم ابن هانئ صورة للسحاب والمطر، فيشبه انصباب المطر بالمد والجزر في البحر في لوحة متعددة المشاهد، ويصوّر الليل والنهار،
فيقابل بينهما مستخدما الطباق في الطول والقصر، ومنقبض ومنبسط، كما يصوّر الأرض فيشبهها ببساط منشور، مجانساً بين تبسط والبسط
بقوله:
غمائمٌ في نواحي الجوِّ عاكفَةٌ ******** جَعْدٌ تَحَدَّرَ منها وابلٌ سَبِط
كأنّ تهتانها في كُلّ ناحِيَةٍ ********* مَدُّ من البحرِ يعلو ثم ينهبط
والبَرْقُ يَظهرُ في لآلاءِ غرَّتِهِ ****** قاضٍ من المزن في أحكامه شَطَطُ
وللجَديدَيْنِ من طول ومن قِصَرٍ ***** حَبْلانِ مُنْقَبضٌ عنّا ومُنبَسِطُ
والأرْضُ تبسُطُ في خدِّ الثرى وَرَقاً ****** كما تُنَشَّرُ في حافاتها البُسُطُ( )
ثم يختم لوحته بتصوير الريح المحملة بالعبير والشذ ى الفوّاح من ورود الحدائق.
والرّيحُ تبعثُ أنفاساً مَعَطَّرَةً ******* مثلَ العبيرِ بماءِ الوَردِ يختلطُ
كأنّما هي أنفاسُ المعِزِّ سَرَتْ ***** لا شُبْهَةٌ للنّدى فِيهَا ولا غَلَطُ( )
وقد أحسن الشاعر التخلص إلى المدح، إذ ربط بين صفات الممدوح، وعناصر الطبيعة، التي يصفها في مقدمته، فالروائح الفوّاحة كأنفاس
الممدوح، وبذلك تخلص الشاعر من المقدمة إلى المدح تخلصاً موفقاً بدت فيه المقدمة مرتبطة ارتباطا وثيقاً بالغرض، وأصبحت عضواً
ملتحماً بجسد القصيدة، وقد تحقق ذلك أيضا في الشعر العباسي على يد أبي تمام إذ «أنه عرف كيف لا يترك وصف الطبيعة مفصولاً عن
موضوع المدحة، فانتقل من وصفه للطبيعة إلى المدح انتقالاً اتصلت به المقدمة مع الموضوع إذ كان في الغالب يذكر في آخر بيت يصفها
فيه أنها من خير الممدوح، أو أنها تحكي خيره، أو أنها تقل عنه، كما في قوله في قصيدة في مدح عبد الملك الزيات التي وصف في صدرها
سحابة ماطرة على هذا النحو:
ديمةٌ سمحةُ القياد سكوبُ ***** مستغيث بها الثرى المكروبُ
لو سعت نعمةٌ لإعظام نعمى ******* لسعى نحوَها المكانُ الجديبُ
أيُّها الغيث حيّ أهلا بمغدا ****** ك وعند السُّرى وحين تؤوبُ
لأبي جعفر خلائق تحكيـ ******** ـهنِّ قد يُشبِهُ النَّجيبُ النَّجِيب( )
وقد افتتح ابن هانئ قصيدة في مدح المعز لدين الله بمقدمة يودع فيها أيام شبابه، ويشكو من حلول الشيب في رأسه، منذراً بانتهاء ملذات
الحياة مما دفع الشاعر إلى التشاؤم فقال:
تَقَدّمْ خُطَى أو تأخّرْ خُطى **** فإنّ الشباب مشَى القهْقَرى
وكأن مَلِيّاً بغَدْرِ الحياةِ ****** وأعْجَبُ من غدْرِهِ لو وَفَى
لبِسْتُ رِداءَ المشيبِ الجديدِ ******* ولكنّها جِدَّةٌ للبِلى( )
وقد أدخل الشاعر على مقدمة المشيب عدداً من العناصر الرديفة، فقد حنَّ إلى أيّامِ الصبا والغزل، وبكى شبابه مودّعاً، ثم وصف الخيل وأطالَ
في وصفها، حتى استطاع أن يصل إلى ممدوحه، وبذلك تكون مقدمة الشباب والمشيب بما فيها من عناصر متعددة وسيلة للوصول إلى
الممدوح، لابتداء غرض المدح.