الهويـّة والتـّواصل
الأستــاذ سالـم العيـّــادي
*/ ليس أعسر على الإنسان من أن يستعيد علاقته المباشرة والآنيّة والعفويّة بالوجود. فنحن نحيا في العالم وفي ذهننا عوالم أخرى تنتصب وسيطا تبنيه الرموز على اختلاف منظوماتها( اللسان / المقدّس / الصورة...) وتنشئه ملكة التخييل على اختلاف تمظهراتها ( فنــّيـّا / أسطوريـّا / علميـّا...). وليس الرأي القائل بأنّ الإنسان جوهر قائم بذاته وماهيّة متعالية ومستقلــّة إلاّ وهمًا يؤدّي الاعتقاد فيه إلى ضروب الانغلاق نفسيًّا وحضاريًّا. ولا يتحقـّق الانغلاقُ للفرد أو للمجموعة إلاّ على سبيل الادّعاء أو الوعي المغلوط الذي لا يريد الاعتراف بالواقع.
والحقيقة التي لا يمكن إنكارها إلاّ على سبيل التنكـّر لها هي أنّ الآخر يسكننا دائما وبعد: فالوجود الإنسانيّ هو وجود تواصليّ بالأساس شئنا ذلك أم أبينا. بل إنّ العلاقات تسبق دائما وجود الفرد وتحدّد هويّة المجموعة , سواء كانت تلك العلاقات علاقات قرابة وجوار وانتماء وانتساب أو كانت علاقات عداء وخشية وتجاهل... فهذه العلاقات هي بمثابة قدر لا مناص منه. فهل يتسنـّى لنا أن نحوّل هذا القدر من ضرورة عمياء قاهرة إلى خيار أو قرار وجوديّ يستند إلى الوعي بوحدة الإنسان رغم تعدّد تعيـّناته الاجتماعيّة والتاريخيّة وإلى الوعي بكونيّة مطلب التواصل رغم كثرة الأنظمة الرمزيّة وخصوصيـّتها؟ وهل يمكن لهذا القرار أن يكون رهانا إنسانيّا إن لم يعترف بأنّ أخلاقيـّات التواصل تفترض إمكانيّة الحوار بوصفه مشاركة كونيّة فيما يعني الإنسان ويهمـّه كإنسان دون تحديد مسبق؟ وبأيّ معنى يكون التـّواصل شرط إمكان الهويّة وعيًا بها واستكمالا لحقيقتها؟
إنّ التواصل الذي يتـّخذ شكل حوار كونيّ لا تتعارض فيه الوحدة مع الكثرة ولا تتقابل فيه الهويّة مع الاختلاف هو المؤسـّس الفعليّ لإنسانيّة الإنسان لا من جهة ما هي معطى بيو- ثقافيّ منغلق على نفسه في ما يشبه الـلا- أنا المُبْهَم وإنـّما من جهة ما هي مشروع " سرديّ " لا يحقّ لأحد أن ينصـّب نفسه ناطقا رسميّا باسمه أو وصيـّا عليه.
فهل التواصل المؤسّس لتجربة المعنى متاح لنا اليوم حقــّا؟ ولماذا تحوّلت وسائل الاتـّصال إلى معيقات للتواصل؟ لعلّ ذلك راجع بالأساس إلى أنّ هذه الوسائل ليست تقنية فحسب وإنـّما هي أيضا إيديولوجا . فما طبيعة هذه الإيديولوجا التقنيّة التي تغزونا في عالم لا يكفّ عن رفع شعارات " موت الإيديولوجيّات " و" نهاية التاريخ " و " صدام الحضارات "...؟ وما عساها تكون الرموز الملائمة لعصر " جنائزيّ " يعلن عن مشاريعه بلغة" الموت " ( موت الإله / موت الإنسان...) بل وحوّل الموت ذاته إلى صناعة إعلاميّة؟
*/ لا يعني التواصل مجرّد اللقاء أو العلاقة - فكم من لقاء يؤجـّج فينا الشعور بالغربة , وكم من علاقة تؤدّي إلى التنافر وإلى سوء الفهم أو امتناع التفاهم- وإنـّما التواصل تبادل مستمرّ لرسائل تفترض تداولا بين الذوات لمواقع الباثّ والمتلقـّي. فهل هذا التداول ممكن اليوم أم أنّ الواحد منـّا يُدفـَع باستمرار إلى الاكتفاء بدور المتقبـّل السلبيّ- المنفعل والعاجز أصلا عن اتــّخاذ مسافة حرّة تجاه شبكات الاتــّصال والإعلام؟ ثمّ ما المهمّ في كلّ فعل تواصليّ: حصول العلاقة ذاتها أم مضمون الرسالة أم الوساطة الرمزيـّــة؟
لعلّ الأهمّ من كلّ ذلك هو المشروع الذي يتنزّل في إطاره فعل التواصل. فهل تستند مشاريعنا اليوم - اقتصاديّا / سياسيّا / ثقافيّا / عقائديّا...- إلى أسس إيتيقيـّة تؤسـّس لفلسفة " العيش معـًا " ( حيث يمكن للذات أن تتواصل مع الآخر دون أن تتماثل معه ضرورة أو تذوب فيه) أم هي مشاريع تكرّس الوهم لإذكاء أسباب الفرقة وفرض خيار الانعزال والتقوقع كحلّ للحفاظ على الهويّة داخل تراث رمزيّ خصوصيّ لا يعنيه أكان الآخر شريكا في إنتاجه وتأويله أو لم يكن شريكا فيه؟
فلينظر الواحد منـّا إلى شبكات التواصل المعولمة وسيصاب بالذهول تجاه فوضى الرموز ولا تجانسها بالرغم من اختزالها دائما في بعد واحد هو " الصورة " . فهل أصبحنا الآن نعيش " حرب " صور حيث يعمل كلّ واحد على إنتاج صورة ناصعة عن ذاته وصورة قاتمة عن الآخر. إنّ هذه " الحرب " تعكس منطق التمركز على الذات الذي يمكن صياغته في هذه القضيّة القاتلة: إمـّا أنا وإمـّا الآخر . أمـّا التواصل كمطلب أخلاقيّ بالأساس فهو القائم على منطق مغاير هو : أنا والآخر. بل ولا معنى للأنا إلاّ بقدر حضور الآخر في أفقها فكرا وسلوكا.
*/ التواصل إذن فضاء يصل بين ذوات داخل أفق مشترك للمعنى قد يتحوّل باستمرار - وعلى سبيل التحريف - إلى حقل تراتبيّ سلطويّ يكرّس آحاديّة المعنى ويرفع الواسطة الرمزيّة المنتجة له إلى مقام مقدّس رفيع يقتضي الانخراط ُ فيه ضروبا من الولاءات الطقوسيـّة. فأن يصبح زعيــمٌ قومــيٌّ " رمزا " فمعنى ذلك أنّ دلالة الانتماء إلى الوطن قد اختزلت فيه وأنّ رمزيـّته كزعيم قوميّ قد أصبحت رمزيّة مقدّسة. وعلى هذا النحو لا يمكن اعتبار التواصل حالة حياديّة أو علاقة موضوعيّة. وإنـّما هو فعاليّة ذاتيّة بالأساس. وذلك بمعنى أنّ التواصل يفترض دائما القدرة على تجاوز الأشياء في موضوعيّتها وتحويلها إلى رموز( فالصوت يكفّ في الموسيقى عن حضوره كمعطى فيزيائيّ ويتحوّل إلى رمز دالّ على انفعالات النفس / واللون لا يؤخذ في الرسم أو في إنشاء الأعلام الوطنيّة في مادّيــّته وإنـّما في دلالته على المعاني أو القيم / والأشياء في نظر المتديـّن آيات دالـّة على منشئها...) أو على إنشاء عالم من الرموز يتجاوز عالم الأشياء ( كالعلامة اللسانيّة والشخصيـّات الأسطوريّة...).
ولمـّا كان الأمر كذلك فإنّ التواصل محكوم دائما بتمثـّلات وتصوّرات ومصافي مختلفة نرى من خلالها العالم ونرسم بمقتضاها صورة عن منزلتنا فيه وعن منزلة الآخر بالنسبة إلينا وعن طبيعة الموقـف الذي ينبغي اتـّخاذه منه. وهذه المصافي المختلفة قد تكون أرضيّة لضرب من " الفهم المسبق " الذي يجعل التفاهم بين البشر أمرا ممكنا وذلك من جهة ما هم يحيون معيشا واحدا ويخوضون غمار تجربة روحيّة مشتركة ( كما يدلّ على ذلك قابليّة اللغات جميعها للترجمة وإمكانيّة التفاعل ذوقيّا مع فنون الشعوب والحضارات الأخرى والقدرة على بناء علاقات صداقة وحبّ مع الآخرين بصرف النظر عن انتماءاتهم). كما يمكن لهذه المصافي أن تتحوّل إلى أحكام مسبقة معطـّلة للتواصل ومؤدّيـة إلى سوء الفهم وإلى الخصومة والتصادم كما يشهـد على ذلك واقعنا اليوم وفي أكثر من مستوى .
فهل التواصل الإيجابيّ المؤدّي إلى التفاهم أمر ممكن داخل إحداثيـّات وجودنا اليوم وما تتميّز به من ميل إلى كلّ ضروب الإقصاء التي يزعجها المختلف والمباين فتعمل على تهميشه؟ أم أنّ هذا الاختلاف والتباين هو بالذات ما يشرّع الحاجة إلى التواصل درءً لخطر تحوّل الاختلاف إلى خلاف فتناقض فصراع تتحوّل معه آلـيــّات الإقصاء إلى آلـيــّات للنفي المتبادل؟ وإذا لم يكن الاختلاف أمرا سلبيا ينبغي تفاديه فكيف يمكن الحفاظ على ثرائه وإبداعيّته دون التفويت مع ذلك في مطلب الوحدة والكونيّة؟ وما الذي ينبغي تقديمه هنا , هل هو كونيّة التواصل كخيار أخلاقيّ- سياسيّ أم كونيّة الواسطة الرمزيّة كحلّ أداتيّ تقاس قيمته بمدى نجاعته كما يحدث مثلا في عمليّة توحيد العملة إقتصاديًّا؟
ولكن هل تقتضي وحدة الهدف وحدة الوسائل ضرورة؟ أم أنّ الهدف الواحد لا يتحقـّق إلاّ بقدر قدرة الإنسان على تنويع الوسائل والتعبيرات؟ ثمّ ألا تدلّ كثرة الوسائط الرمزيّة وتطوّرها المستمرّ على أنّ التواصل مشروع لامتناه يُطلـَب ولا يُدرَك؟ أم أنّ الأمر يتعلـّق في كلّ مرّة بتغيّر جذريّ في إستراتجيـّات التواصل وبالتـّالي في نمط الهويّة التي يريدها الإنسان لنفسه أو الــّتي انتدبه إليها العقلُ والتـّاريخُ على سبيل الحيلة والمكر؟
لأجل ماذا نحن نتواصل؟ ذلك هو السؤال المركزيّ . ليس التواصل هدفًا يطلب لذاته وإنـّما هو وسيلة. فعمّ أنا أبحث في تواصلي مع الآخر؟ وماذا يريد الآخر إذ يتواصل معي؟ ما الهدف من التواصل؟ ذلك هو السؤال الذي لا نتفطـّن دائما إلى ضرورة طرحه وتعميق النظر فيه.
*/ يقوم التواصل من جهة البنية على علاقة ما. وكلّ علاقة تفترض وجود وسائط تتعدّد وتتباين بتعدّد إمكانيـّات الإنسان وتباين ملكاته ( الصرخة والإشارة الجسديّة واللـّغة والآثار الفنـّية والطقوس التي توحـّد شعور المجتمعات حول مقدّساتها... الأنساق الرقميّة المختلفة التي تشكـّل الواقع على نحو افتراضيّ...).
فالرمز هو في كلّ هذه الحالات شكل مميــّـز لحضور الإنسان في العالم. فهل ننظر إلى هذه الأشكال المختلفة من التواصل والترميز كمجرّد انعكاس لتنوّع التجارب البشريّة وتباين الشروط الاجتماعيّة والتاريخيّة أم ننظر إليها أيضا كانعكاس لوحدة الجنس البشريّ من جهة الأصل كما من جهة المصير؟ هل يحقّ لنا في كلّ مرّة أن نشدّد على اختلاف التمظهرات وتنوّعها دفاعا عن الخصوصيّات الثقافيّة دون أن نكشف أيضا عن وحدة البنى إنقاذا للعنصر الكونيّ الكامن في النواة الروحيّة لكلّ حضارة؟
التواصل بأشكاله المتنوّعة والترميز بأنماط المتباينة تعبير عن وحدة كلـيّة هي وحدة الإنسانيّ في الإنسان: فهويّة الإنسان تكمن بالأساس في القدرة على الرّمز والمجاز والاستعارة . ولمـّا كان الأمر كذلك فإنّ المفاضلة بين الأنظمة الرمزيّة ليست إلاّ موقفا إيديولوجيّا لا يخلو من تعسـّف وتمويـه. ولكـن ألا يؤدّي الإقرار بتساوي هذه الأنظمة من حيث الوظيفة والقيمة إلى ضرب من " النسبويـّة " قد يجعلنا نفوّت نهائيّا في مطلب الحقيقة لصالح فكر غوغائيّ يكون فيه كلّ شيء صحيحا ومقبولا وكلّ شيء خاطئا ومرفوضا في الوقت ذاته؟ ألا يكون التعايش بين المتناقضات ( العلم والأسطورة مثلا ) ضربا من اللاّمعقول يميـّز عدميـّة الإنسان المعاصر؟ هل من المشروع أن تنسـّب الحضارة ُ الإنسانيّة اليوم مكتسبات التقدّم علميّا وتقنيّا وسياسيّا وتعيد إحياء رموز الماضي بدعوى الحفاظ على التراث أو بدعوى حقّ الأقلـّيـّات الطائفيّة في الحفاظ على هويّتها العرقيّة أو العقائديّة؟ هل أصبحت " القرية العالميّة" بمثابة أرخبيل جزر معزولة بعضها عن بعض بالرغم من التقائها في بحر واحد ( الأنتارنات / الفضائيّات)؟ هل وسائل الاتـّصال الحديثة وسائل تواصل أم أدوات عزل؟
إنّ ثقافة الجمهور التي تتولـّى مؤسـّسات صناعة الرأي تكريسها ضدّ ثقافة النخبة العالمة والمثقـّفة هي التي تفقد الإنسان ثقته في قدرة العقل على التأسيس لقيم كونية تكون موضع اتـّفاق يولـّد التناغم بين البشر معرفيّا وأخلاقيّا وسياسيّا. وقد أدّت هذه " الريبيّـــة" المعولمة إلى تكريس خيار الانغلاق أكثر فأكثـــر. ولا أدلّ على ذلك من تفتــّت الأنظمة المعياريّة التي كانت الرموز تستمدّ منها قوّتها التأثيريّة وثراءها الدلاليّ .
*/ لا وجود لرمز منعزل أو مستقلّ. فمن شأن الرمز أن يحيل إلى شيء خارج ذاته ( المرجع أو المعنى...). كما من شأن الرمز أن يكون جزءً من منظومة ( رؤية للعالم ) هي التي تعطيه دلالته وهي التي تمكــّن الإنسان من مفاتيح تأويله وتحدّد شروط استعماله ومقتضيات الانخراط في فلكه السيميولوجيّ وجدانيّا ( الفن/ الدين..) أو عقليّا ( العلم / الفلسفة...). فاللون مثلا رمز ولكنــّه لا يعني شيئا بالنسبة إلى الرســّام كما بالنسبة إلى المتلقــّي إن لم يكن اللون منتميا لرؤية جماليّة تشمل جميع الألوان في علاقة بعضها ببعض وفي علاقتها بما ترمز إليه من معان أو قيم( منظومة / بنية / نسق...).
ولا قيمة لمنظومة رمزيّة إن لم تكن شفرتها ومفاتيح التأويل فيها موضع اتــّفاق ومواضعة جماعيّة تحترم الأشكال الممكنة لتصريفها وتلتزم بقواعد نحوها كما يفترض ذلك في كلّ سلوك لغويّ طبيعيّا كان أو اصطناعيّا. وفي ذلك تكمن الشروط الضروريّة لكلّ تواصل , وفيه تكمن حدوده أيضا: فلا معنى لحرّيــّة خارج الحدود. غير أنّ هذه الحدود لا توجد بذاتها, وإنـّما هي توجد بقدر ما يعي الإنسان بها. ولا يتيســّر الوعيُ بها إلاّ لمن اضطلع بواجب الحرّيـّة من جهة ما هو واجب لأجل الإنسانيّة قاطبة.
وما دام التواصل قد انفلت اليوم من كلّ " عقال "( أخلاقيّ / تداوليّ / دلاليّ ...) بسبب الزهد في الحقيقة وما دامت الحرّيـّة لا تعني شيئا خارج الحدود فإنّ الإنسان اليوم أصبح يميل أكثر فأكثر إلى وضع حدود وهميــّة وإلى استنزاف جهده في مواجهتها ( وذلك في مستويات مختلفة دينيّة وسياسيّة...).
ولقد عزّزت وسائل الاتــّصال والإعلام شعور الإنسان المبهم بضرب جديد من الاغتراب. فالثورة المعلوماتيّة والاتصاليـّة قد تجاوزت بَعْد ُ شرط المواضعة وتعالت على كلّ الشروط القبليّة المحدّدة للدلالة وذلك لأنـّها تمكـّنت من إنشاء وساطة لها من قوّة البداهة وشدّة الوضوح ما يجعل تأثيرها نافذا ومضمونها مطلق الحضور: إنـّها الصورة التي حوّلت العالم إلى فرجة لا خيار لنا أمامها إلاّ أن نصمت , ولا يمكن مواجهتها إلاّ باستبدالها بصورة أخرى على نحو لا متناه لا يخلو هو الآخر من عبثيـّة في معظم الحالات.
الصورة المنتـَجة تقنيّا لا يمكن التحاور معها: فإمـّا قبولها وإمـّا رفضها. إنـّها تجعل من المتلقــّي متطرّفا لا حلّ له داخل هذا الإطار الإمــّيّ الصارم: إمـّا الخضوع لسلطان الصورة مطلقا وإمـّا القطع معها مطلقا. وفي كلتا الحالتين يكون التواصل ممتنعًا. إنّ الصورة المصنــّعة والحاضرة على سبيل الغزو الذي يحتلّ المكان والزمان ويكره المتلقـّي على اختزال جميع ملكاته الحسيـّة في ملكة النظر إنــّما هي مشهديـّة معولمة اقتلعت الإنسان ( فردا وجماعات) من واقعه الفعليّ وعطـّلت فيه القدرة على التخييل وانتزعت منه مساحات الحلم والتأويل, بل وعطـّلت فيه إحساسه بالفرق من جهة ما هو الحقيقة الأنطولوجيّة والمنطقيّة للهويّة ( الوجود = الفرق ).
فإذا كانت التقنية هي الاكتمال الفعليّ للميتافيزيقا بما هي مشروع السيطرة على الموجود تفويتـًا في الوجود ( على سبيل النـّسيان كما يقول هيدغر ) فهل من سيطرة أقوى من سيطرة صورة افتراضيّة تبني تواصلا افتراضيّا بين ذوات افتراضيّة حول معان افتراضيّة لأجل غايات هي الأخرى افتراضيّة... لا يكون الإنسان مطالبا في إطارها حتــّى بالتعريف بذاته ولا يطالب بالتعرّف على الآخر؟ أيّ ضرب من التواصل تتيحه التقنية اليوم؟ إنـّه حقـّا سؤال محرج قد تقتضي الإجابة عنه إعادة النظر في معنى الإنسانيّة ذاتها: أيّ معنى لإنسانيــّتي اليوم؟ وهل تـُتاح للواحد منــّا الشروط الملائمة للاضطلاع بمهمـّة " الوجود " والاستجابة لنداء إنسانيّته بوصفها دائما وجودا لأجل الغير؟ ومن هو هذا الآخر الذي يمكن أن أبذل لأجله وجوديّ؟ هذا هو أخطر الأسئلة بالنـّسبة إلى سؤال الهويّة كسؤال أخلاقيّ رأسًا.
_________________
وحيد الغماري
منقول عن منتدى فلسفيات البكالوريا