الحدود الفلسفية للنمذجة النسقية
إبراهيم قمودي
يبدو أن العلم والتقنية يعطياننا اليوم معرفة حقيقية وسلطة واقعية ففي الصراع ضد البؤس يمكناننا من استغلال عقلاني للموارد الاقتصادية، وفي الصراع ضد المرض كثيرا ما ينجح الطب والجراحة في إنقاذ أرواح بشرية من موت يكاد يكون حتميا : إن العلم والتقنية يقدّمان للإنسان سلطة حقيقة وتبدو النمذجة كممارسة علمية موجهة أساسا للفعل قد رسخت هذا التوجه المعرفي الذي يرمي إلى سيادة الإنسان على الطبيعة بل أكثر من ذلك، إن النمذجة في بعدها الدلالي وفي خاصيتها التليولوجية قد ردّت الاعتبار للذات في إنتاج المعرفة العلمية، إذ تؤكد على الطابع الإنساني للحقيقة، فالحقيقة تنزّل في التاريخ ولم تعد واقعا انطولوجيا بل بناءا رمزيا وتمثلا ملائما في ظروف معينة وفي أزمنة معينة
ردّ الاعتبار للذات في النمذجة يتزامن معه ردّ الاعتبار للمعنى والتأويل في المعرفة العلمية ذلك أنّ البراديغم الوضعي بإقراره للموضوعية كشرط أساسي في المعرفة العلمية لم يستبعد فقط الذات باسم الحياد والكونية بل أقصى أيضا المعنى من خطابه وحصره في الفلسفة، والقانون العلمي يمثل في البراديغم الوضعي قانونا للطبيعة في ذات الوقت إذ تقتصر مهمة الباحث الموضوعي على اكتشاف هذا القانون الذي يوحّد المعرفة ويوحّد الذوات، يوحّد المعرفة من جهة كون الظواهر المتعددة تُرد إلى نفس القانون، ويوحّد الذوات من جهة كون كلّ الذوات ترى نفس القانون في نفس الظواهر المتعددة، وهذا يعني أن فكرة القانون في البراديغم الوضعي تعبر عما اسماه "ألان باديو" Alain Badiouبثنائية الواقعية ـ القانون، وهذه الثنائية تعبر عن الابستيمية التماثلية التي تحدّد الحقيقة أنطولوجيا، أمّا في النمذجة فإن اعتبار النشاط المعرفي اختراعا يبني تصوّرا للظواهر بطريقة حرّة من قبل الباحث يضع الذات مرة أخرى في محور العملية المعرفية وبالتالي يغيّر ثنائية الواقعية القانون بثنائية الواقع النموذج وفي هذه الثنائية لا نتحدّث عن تطابق بين النموذج والواقع وإنما نتحدّث عن ملائمة، ملائمة تجعل النموذج المقبول ليس النموذج الوحيد الممكن بل إن هو إلا معنى ممكن ينتجه المنمذج كذات متدخلة باختياراتها وأهدافها وغاياتها في إنتاج المعرفة باعتبارها معنى ممكن للواقع، بهذه الكيفية لن يكون بإمكان "هوسّرل" E. Husserl اتهام البراديغم البنائي بإقصاء مسائل المعنى مثلما كان الحال مع البراديغم الوضعي
غير أن النمذجة باعتبارها المعرفة التي نتجت عن كيفية التفكير وضرب الفعل الذي يناسبها بحيث تتمثل الحقيقة في المطابقة بين نماذج تجربتنا للعالم وهذه التجربة، وحيث يكون النموذج تمثلا غائيا موجّها لمشاريع الفعل بحيث ينظم العقل ذات بتنظيمه للعالم وتكون تفعيلا للممكن باعتبار التفاعل المؤسس للمعرفة بين الذات والموضوع، النمذجة التي تجعل من رجل العلم المعاصر متصوّر ملاحظ ومنمذج لفعل ذكيّ يصف بناء استراتيجيا الفعل، تقترح علاقة تطابق بين وضعية مدركة ومشروع متصوّر، لا تمثل في منظور "بولو"Nicolas Bouleau، علما بقدر ما هي طريقة تستخدم العلم، فهي قول وفعل غير محايد وعلى صلة وثيقة بالايدولوجيا، وذلك ما يتمظهر حسب "ألان باديو" في ارتباط النمذجة بمعياري الاستقصاء والبساطة كمقولات ارتبطت "بالعقل التصنيفي للعصر الكلاسيكي" في مقاربته النقدية للفن، وهذا ليس بغريب على عقلانية النمذجة بما أنها تقوم على إنشاء خيالي لصورة مقبولة للواقع تمثلها النماذج من جهة كونها تيسر سبل الفعل الممكن في الواقع، ذلك أن النمذجة تخلق واقعا افتراضيا لتأويج الفعل، فعل صاحب القرار وهو ما يكشف عن انغراس النمذجة في رهانات مخصوصة تابعة لجهات غير علمية. وكما يمكن أن نغالط باللغة الطبيعية نستطيع أن نغالط باستعمال النماذج حيث "يتحول الإخضاع التقني لشروط الإنتاج إلى ضرورة لا زمنية لنمط اقتصادي يكون النموذج فيه مثالا على الاكراهات المفيدة" مثلما عبر عن ذلك "ألان باديو"، وتساعد الرياضيات بطبيعة الحال على تأكيد هذه المغالطة وتمريرها بشكل أفضل إذ يقول "بولو" "وليس للرياضيات بهذا الخصوص أية وظيفة تطهيرية، على خلاف ذلك تكون الرياضيات الصحيحة في ظاهرها لياقة وأدبا يمكن أن يخفي الغايات الأقل نبلا"، ذلك أنّ النجاعة وسخة، خاصة وأن ارتباط النمذجة بالسيبارنيطيقيا ييسّر تجاوز حدود الهيمنة على الطبيعة إلى الهيمنة على الإنسان و"الان باديو" يذهب إلى أبعد من ذلك عندما يعلن أن النمذجة لا تعبر عن السمة المميزة للعلم وإنما "عن الصورة البرجوازية للعلم"، صورة العلم المعولم الذي لا يخفي ولا يتحرّج من ارتباطه العضوي برأس المال، إذ تكشف النمذجة في مستوى طرائقها كما في مستوى غاياتها عن افتقارها للاستقلالية، وأنّى لها أن تكون مستقلة وهي التي تنتج تمثلا في مكاتب الدراسات وفي مكاتب رجال الاعمال والشركات العالمية والمؤسسات العسكرية تحت الطلب، وكصورة للعلم المعولم تتقدم النمذجة في صورة الكوني الذي يخوّل لأمريكا بالتمظهر بعدم احتكار العلم والتقنية فنمذجوا و لكن لا تطالبوا بالمعرفة الذرية و بالتكنولوجيا النووية
مطلب النمذجة ليس إذن، مطلب الحقيقة وإنما هو مطلب الهيمنة كمقولة من مقولات السلطة بالشكل الذي جعل المعرفة مسالة حكومة وصراع بين الحكومات، مطلب النمذجة كممارسة متواطئة مع السلطة يجانب إذن مطلب الكلي بما هو مطلب إنساني ولا يتعلق الامر سواء بالنسبة لـ: "بولو" أو لـ:"باديو" برفض النمذجة في ذاتها كممارسة علمية قد تفيد الإنسانية إذا ما أحسن توظيفها وإنما برفض مبادئها والغايات التي تتحكم في إنتاجها وهو ما يحمّل العلماء والعلماء الجدد والفلاسفة ورجال السياسة وكلّ كيان ايتيقي مسؤولية إخراج العلم من البوتقة الضيقة للهيمنة وجنون الهيمنة السائد في وقتنا الراهن. يتعلق الأمر إذن بمصالحة الإنسان مع الإنسان، مصالحة الإنسان اليوم مع الكلّي الذي نظّرت له الحداثة الغربية مع "كانط" حتى لا تكون التقنية توجيها وتحكما وحتى يضمن العلم استقلاليته، و على الإنسانية أن تتحمل مسؤولياتها كاملة إزاء خيارتها عساها تختار إنقاذ الكوكب
منقول