عندما أكبر أريد أن أصبح طيارا
أعادت طرح السؤال للمرة الثانية،و أعات ثلاثا،ما من مجيب.فوقفت حائرة لا تدري أتعاتبهم أم تغض الطرف . الرؤوس تتمايل تعبا و إرهاقا.ألقت بالطبشورة.و جلست على الطاولة.ارتسمت على وجنتيها ابتسامة عريضة،ثم أردفت قائلة:
ـ ما بالكم اليوم يا أبنائي؟أنفذ صبركم و طالت ساعة الدرس؟
ـ انتفض "جاد" واقفا،وهو أنشط تلامذة الفصل،وقال:
ـ أي و الله يا معلمتي ،فالعطلة على الأبواب و المشاغل تنادينا
ـ صبرا يا جاد فإني عهدتك جادا في العمل صبورا على الراحة،لنأخذ وقتا مستقطعا نفتح خلاله أبواب حوار ممتع.
أغلقت الجفون أبواب النعاس و استفاقت البصائر من سباتها .
ـ "جاد" أيها تلميذ النجيب،قالت المعلمة،ماذا تريد أن تصبح حين تصير راشدا؟
ـ أنا؟..أريد أن أصبح طيارا...طيارا بارعا..أحلق في الفضاء كالطير الكاسر الحر القاهر للصعاب لا يعوق حركتي أحد ...قوي جبار تهابني الطيور ..آه يا معلمتي يا من علمتني كيف أخط إسمي...لو سطر لي القلم بما أحلم لأنتقم شر انتقام ممن فجر بيتي و حرمني دفء حضن أمي.
ـ إن شاء الله يا جاد و أنت يا "لجين"
ـ أريد...أريد أن أصبح طبيبة حين أكبر أرمم جراح أبناء وطني و أنقذ حياة أهلي من موت محقق،لقد ماتت أختي بين يدي بينما كانت أمي تبحث عن طبيب يسعفها إثراختراق رصاصة صدرها.
اختلطت الأصوات و تعالت "أريد أن أصبح جنديا أرفع راية فلسطيني و يحميها خطر الصهيوني،أريد أن أصبح شرطيا،أنا سأصير مهندسا حين اكبر لأزين شوارع بلادي، أنا....أنا..."
لفت صمت "جهاد"نظر المعلمة.إذ لم يشارك المجموعة في الحوار و لم يشاطرهم رأيه. اقتربت منه المعلمة ،انحنت بلطف ماسحة رأسه بيدها الحنون ثم قالت:
ـ ما بالك يا "جهاد" صامت؟ ألا تريد أن تحدثنا عن حلمك؟
هز رأسه بثقل و قال:
ـ أي حلم هذا الذي سأحلم به؟ ألي الحق حثى أحلم أو أرغب في شيء حتى ؟ ألي الحق في أن أحمل بين ثنايا صدري حلما أكافح لأحققه؟
ـ لم هذا التشاؤم يا بني؟
ـ "معلمتي" ، لأقد فقدت معنى الحياة كإنسان عادي،فقدت أمي إثر قصف جوي،"جاد" يا صديقي و رفيق طفولتي لا تنسى أن تقتص منهم حقي،و فقدت أبي إثر إصابته بجرح بليغ،و أنت يا لجين أوصيك بالجرحى خيرا،أأدرس لشهادة لا أدري لمن سأقدمها؟فما نفع هذا إذا؟ إني ألمح أطفالا تركض فرحا لتقدم جوائزها و شهاداتها لأوليائها،و أنا أأقدمها لحفنة تراب؟إني أعيش في كابوس لا أحمد نهايته، لا أدري إن كنت سأعيش هذه اللحظة أم لا...حرموني حنان أمي و أبي،حكموا علي و على إخوتي العيش في العراء،فلا حضن يدفؤنا و لا بيت يأوينا،أنا صبي يتيم متشرد لا مأوى يأويني..و لكن...حين تطؤ قدماي مدرستي ألمح بصيص أمل يحجب عيناي عن البصر و يرشدني إلى طريق السعادة ...و لكن الأماني و الأحلام تختلط علي..لا أدري إن كنت أريد أن أصير طبيبا ينقذ أرواح أهل وطني أم بناء يرمم ما هدمته الأيادي الآثمة،أم بحارا يحمي أساطيل البلاد،و ربما مصورا يرسم بعدسته ما يعانيه شعب مضطهد سفكت أرواح آبائه و سلبت براءة أطفاله، أم حفارا يحفر قبورا لجثث غرت في دم طاهر، أأحلام تراودني أم كوابيس لست داري ؟لكنني فضلت أن أكون "جهاد" المجاهد بالحجر أنتقم من سالب أحلامي.
بقلم الأديبة الصغيرة :مروى بن عبد الجليل