للحديث عن أسس التّجديد الّتي أرساها ونّوس في مسرحيّاته وبالخصوص مغامرة رأس المموك جابر ، لابدّ لنا من وقفة
قصيرة على بعض مميّزات المسرح التّقليدي الإغريقي وعندها سنتبيّن أهمّ ماأضفاه ونّس في رؤيته للمسرح ، حيث سنكون أيضا في بحثنا هذا مراعين لما حدّده سعد اللّه ونّوس من سمات لمسرح عربي منشود وذلك من خلال كتاباته الّتي رسم فيها رؤيته لمسرح عربي جديد ،من ذلك سنهتمّ بما ورد في مدخل المسرحيّة من "هوامش للعرض والإخراج "كما سنراعي في هذا البحث في اسس التّجديد بمسرحيّة "مغامرة رأس المملوك جابر " ماهو وارد في سفر البرامج الرّسميّة حتّى لانخرج من فلك الأهداف التّي رسمتها الإدارة التّربويّة لدراسة المسرحيّة .
أوّلا سننطلق بفضاء المسرحيّة في مغامرة رأس المموك جابر، مركّزين على أهمّ ما أضفاه ونّوس من لمسات جديدة على هذا الرّكن الأساسي في العمل المسرحي ككلّ الّذي أبرز الحرفة المسرحيّة التّي إمتاز بها في أعماله المسرحيّة.
إنّ أهمّ مايسعى إليه ونّوس هو كسر الطّوق بين ركنين أساسيّن "العرض"و"المتفرّج" أو بصطلح آخر رفع الحاجز بين المساحتين الخشبة والصّالة ، حيث الأولى "هي العرض المسرحي الّذي تقدّمه جماعة تريد ان تتواصل مع الجمهور وتحاوره والثّانية هي جمهور الصّالة الذّي تنعكس فيه كلّ ظواهر الواقع ومشكلاته " إنّ ونّوس ينظر إلى إمكانيّة الجمع وإدماج هاتين المساحتين على أساس حوار مرتجل خاضع لقونين ولعبة مسرح التّسييس الّذي لايسعناهنا تفصيله وإضاحه ( انظر الكتاب المدرسي في "هوامش للعرض والإخراج")
وهذا خالفا لما عهدناه من ظوابط في المسرح التّقليدي الإغريقي حيث تكون دائما خشبة العرض منعزلة تماما عن مساحة الجمهور وخير دليل على ذلك" الحائط الرّابع " أو ذلك "السّتار" الّذي يفصل بين هاتين المساحتين بين المشهد والأخر ، أمّا في نصّنا " مغامرة رأس المموك جابر" لنا أن نقدّم أبرز أدلّة وضعتنا في مشهد تلاحمت فيه المساحتين ، أوّلا إذا إنتبهنا إلى التّوظيف المرئي لعناصر الدّيكور سنجد أنّ الممثّلين يخرجان من المساحة الثّانية (الصّالة) من بين الزّبائن حاملين لعناصر الدّيكور وهي عبارة عن قطع بسيطة تمثّل ديوان الخليفة ثمّ يضعانها أمام الزّبائن منتظرين سكوت الحكواتي للقيام بدورهما التّمثيلي.
هذا المشهد على عكس ماعهدناه في المسرح التّقليدي الّذي يستوجب فيه تغيير الدّيكور إنزال" السّتار " وإسداله بين المساحتين ،وونّوس يعتبر هذا" السّتار " أو" الحائط الرّابع" من أبرز العناصر المعمّقة للإيهام والعزلة بين المساحتين الخشبة والصّالة حيث يكرّس هذا "السّتار" موت الحوار المرتجل بين المساحتين على حدّ تعبير سعد اللّه ونّوس"هناك التّقاليد المسرحيّة المبنيّة على إلغاء مثل هذا الحوار "، فهو يسعى إلى رفع هذا الحاجز بين المساحتين كما ذكرنا آنفا .
وعديدة هي "الوسائل المصطنعة" على حدّ تعبير ونّوس لخلق ذلك الحوار المرتجل بين المساحتين " إننا نحاول ببعض الوسائل الاصطناعية كسر طوق الصمت ، وتقديم نموذج قد يؤدي تكراره إلى تحقيق غايتنا في إقامة حوار مرتجل وحار وحقيقي بين مساحتي المسرح : العرض والمتفرج ."
وهنا سنركّز على بعض الوسائل الأخرى المصطنعة الّتي إعتمدها ونّوس لكسر الطّوق بين المساحتيّن والّتي تعتبر من أهمّ وأبرز الأسس الّني ارتآها ونّوس لمسرح عربي جديد متجدّد:
لو تأمّلنا النّص المعنون في الكتاب المدرسي " المناورة أساس الحكم " لوجدنا أنّ المؤلّف حدّد هويّة الممثّلين الّذين سيقومان
بدوري الخليفة وأخيه قائلا في الإشارة الرّكحيّة من ذلك النّص التّالي" الحكواتي : فقال الوزير لمملوكه جابر . هيا معي .. وبعد أن ستر رأسه بكوفية سوداء ، وضعه في غرفة مظلمة على بابها حارس بالاقتراب . وكان لا بد من الانتظار حتى ينمو الشعر ، ويخفي سر الوزير .. والتوتر في ازدياد . ترقب في قصر الوزير . وحركة ومشاورات في قصر خليفة بغداد . وكلعبة الشطرنج كل يحك رأسه ، ويفكر كيف يحرك أحصنته وجنوده . اللاعبان خليفة بغداد ووزيرها ، ووقعة الشطرنج بغداد وعامتها .
(أثناء كلام الحكواتي يدخل الممثلان اللذان قاما بدوري الوزير والأمير عبد اللطيف .. هما الآن يمثلان دوري الخليفة المنتصر بالله وأخيه عبد الله . يضعان ما يحملان من قطع ديكور بسيطة تمثل ديوان الخليفة ، وهو شبيه جدا بديوان الوزير يتخذان مكانيهما ، وينتظران سكوت الحكواتي .. بعد لحظات .)
|== =+ فالمؤلّف قد أشار إلى أنّ الممثّلين يقومان بنفس الأدوار حيث أنّهما في مشهد سابق كان يجسّدان دوري الوزير و الأمير عبد اللّطيف .
|===×فكأنّما ونّوس أراد تبليغ التّالي بأنّ الأدوار لاتتغيّر بتغيّر الأسماء أوبعبارة أخرى "أنّ الأنظمة السّياسيّة في العصور القديمة و الحديثة لايمكن أن تتغيّر بإحلال فرد مكان آخر "، ونحن لايهمّنا في بحثنا هذا المقاصد المضمونيّة الّتي أراد ونّوس تبليغها بقدر مايهمّنا النّفس التّجديدي الّذي احتفى به نصّه المسرحي ، من ذلك أنّ هذه الطّريقة قيام الممثّلين بنفس الأدوار هي أحد " الوسائل المصطنعة " ، هي كسر الإيهام بالواقع بإلغاء مبدأ تماهي الشّخصيّة المسرحيّة مع الدّور الّذي تقوم به عسى أن يكون الزّبائن في مجال السّيطرة على الوقائع الواقعة المعروضة أمامهم بدل الإغتراب ، وزد على ذلك
المؤلّف المسرحي يؤكّد عبر تلك الإشارة الرّكحيّة للقارئ هذا الّذي ارتأيناه من حرصه على إلغاء مبدأ تماهي الشّخصيّة ،
إذ يؤكد لنا الشّبه الكبير بين ديوان الخليفة وديوان الوزير " .... هما الآن يمثلان دوري الخليفة المنتصر بالله وأخيه عبد الله . يضعان ما يحملان من قطع ديكور بسيطة تمثل ديوان الخليفة وهو شبيه جدا بديوان الوزير..."
كما نقل لنا سعد اللّه ونّوس حركة الممثّلين قبيل بداية الحوار وذلك أمام الزّبائن" المتفرّجين" :" يدخل ...يضعان....يتّخذان...ينتظران...." وهذه "الكواليس"عادة ماتتمّ في المسرح التّقليدي إلاّ بعد إسدال السّتار بين المساحتين ، ومن زاوية أخرى ينقل سعد اللّه ونّوس حركة الممثّلين من منظور آخريتمثّل في تحديد الأعمال والأدوار وذلك للتّمهيد نحو انتقال الحوار، من حوار يجمع بين الحكواتي و الزّبائن إلى حوار يجمع الخليفة بأخيه ، وهي اعمال مختلفة نوعيّا عن الممارسة في المسرح التّقليدي ، حيث الفضاء المستقلّ يقوم على منصّة واحدة عليها أحداث وهميّة ، فما نشاهده على الرّكح التّقليدي كأنّه يتمّ في عالم منغلق ، وينهار الحائط الرّابع لينفذ المتفرّج من خلاله إلى هذا العالم الوهمي كأنّه يسترق النّظر ، والممثّلون يقومون بأدوار شخصيّات وهميّة تستمدّ حقيقتها من الواقع انطلاقا من تقاطع بين المتفرّج والممثّل وأساس ذلك التّقاطع أن ّذلك الحدث الممسرح يتقاطع مع الوضع الّذي يعيشه الزّبائن ويتشابه معه تمام التّشابه ، لذلك سيعتبر مايقوم به الممثّل أمامه شيئا واقعيّا حدث فعلا، ليجعل المتفرّج بذلك مشاركا في عمليّة العرض بالمشاهدة ، وبذلك تتحوّل خشبة المسرح إلى مكان شفّاف يعاين من خلاله المشاهد كلّ حركة فيها من تغيير لقطع الدّيكور مع قيام الممثّلين لأدوارهم
مع استعداد ممثّلين آخرين للقيام بأدوارهم .
|===+ فالمؤلّف جمع إذا في نصّه بين المحتوى وهوامشه (الكواليس) لينقل المتفرّج من مجرّد معاين إلى مشارك فعلي في العمل المسرحي بل إلى صاحب موقف .
ومن ابرز سمات التّجديد المسرحي عند ونّوس أنّ ذلك النّموذج الّذي قدّمه من خلال مسرحيّة "رأس المملوك جابر "يعتبر نصّا حيّا ذلك أن المتفرّج ينشئ مع المؤلّف وعرضه نصّا حيّا جديدا متجدّدا في كلّ عرض مسرحي فالنّص المسرحي عند سعد اللّه ونّوس متطوّر نام ذلك أنّ الخطاب الصّادر عن الممثّلين ليس تلقائيّا لرؤية سياسيّة أو فرضها من أعلى الخشبة كما يفعل في المسرح السّياسي، إنّما هو مسرح التّسييس ، الخطاب فيه حوار حيّ طرفاه الممثّلون والمتفرّجون إلى حدّ إلغاء الفاصل بين هذين الفضائين واندماج هذا في ذاك ، وبذلك يصبح المشهد –كما في سائر مشاهد المسرحيّة – لعبة أكثر من كونه عرضا مسرحيّا نمطيّا ،لعبة خاضعة لنواميس مسرح التّسييس وما تقتضيه من وسائل لخلق الحوار المرتجل .
وقال ونّوس في هذا التّالي :" وباعتبار ما سبق ، فإن كل أحاديث الزبائن ، وتدخلهم في مجريات الأحداث ، وتعليقاتهم ليست إلا اقتراحات ، أو ما سميته وسيلة اصطناعية لتشجيع المتفرج على الكلام والارتجال والحوار .. ولهذا فمن الممكن في ضوء أي إخراج أن يعاد النظر في هذه الأحاديث ، أو أن تبدل صيغتها وتحول إلى العامية ...
يمكن تقديم هذه المسرحية في أي مكان ، وفي أي مساحة أنا أضعها الآن في مقهى ، ولكن ذلك لا يمنع من تقديمها في أي مكان ..."