أي حزن على أجيال بلا " معلمين". فإن معلمينا ليسوا الأساتذة العمومميين فحسب، على ما بنا من حاجة إلى أساتذة. إذ حين نبلغ سن الرجال يكون معلمونا أولائك الذين يفرضون علينا جدة جذرية، أولائك الذين يعرفون كيف يخترعون تقنية فنية أو أدبية ويجدون طرق التفكير المناسبة لحداثتنا، نعني لصعوباتنا كما لحماستنا الصاخبة. نحن نعلم أنه ليس ثمة سوي قيمة فنية واحدة ، بل حتي قيمة حقيقية واحدة:" اليد الأولى"، الجدة الأصلية لما نقول ، الموسيقي الصغيرة "التى بها نقول ذلك. إن سارتر إنما كان ذلك بالنسبة لنا(بالنسبة إلى جيل العشرين عند التحرير).من ، عندئذ عرف كيف يقول شيئا جديدا، إن لم يكن سارتر؟ من علمنا طرقا جديدة في التفكير ؟.......ما كان يأتي من سارتر إنما هو الموضوعات الجديدة، وشيئ من الأسلوب الجديد، وطريقة خصومية وشرسة جديدة في طرح المشاكل. ففي خضم فوضى التحرير وآماله ، إكتشفنا وأعدنا إكتشاف كل شيئ: كافكا، الرواية الأمريكية ، هيسرل وهيدجر، توضيح المواقف الذي لا ينتهي مع الماركسية ، افندفاع نحو رواية جديدة....لكن كل شيئ مر عبر سارتر، ليس لأنه كان يملك ، بصفة الفيلسوف ، عبقرية الكل الجامع
totalisation) la ) ، بل لأنه كان يعرف كيف يخترع الجديد.إن العلروض الأولي لمسرحية الذباب ، وظهور الوجود والعدم ومحاضرة الوجودية مذهب إنساني ، إنما كانت أحداثا كبري : كنا نتعلم من بعد ليالي طويلة كيف هو التماهي بين التفكير والحرية.
إن "المفكرين الأحرار" هم ، بوجه ما ، يعارضون " الأساتذة العموميين". حتي السربون تحتاج إلى سوربون مضادة، وإن الطلبة لا يستمعون جيدا إلي أساتذتهم إلا حين يكون لهم أيضا معلمون آخرون. لقد كف نيتشة فى وقته عن أن يكون أستاذا من أجل أن يصبح مفكرا حرا: ذلك ما كانه سارتر أيضا، فى سياق آخر ومخرج آخر . وإن للمفكرين الأحرار خاصيتين : نوع من التوحد الذي يلازمهم في كل حال، ولكن شيئا من من الإضطراب ، شيئ من فوضى العالم حيث ينبجسون والذي هم ضمنه يتكلمون. ولذلك هم لا يتكلمون إلا باسمهم الخاص ، دون أن "يمثلوا" شيئا، وهم يستحدثون داخل العالم أشكالا من الحضور الخام، وقوي عارية ليست هي بدورها "قابلة للتمثيل".كان سارتر قد رسم بعد في ما هو الأدب ؟ المثال الأعلي للكاتب"إن الكاتب سوف يستعيد العالم كما هو، نيا تماما، عرقانا تماما، نتنا تماما، يوميا تماما، من أجل أن يقدمهإلي حريات علي أساس من الحرية....إنه لا يكفي أن نمنح الحرية للكاتب أن يقول كل شيئ فهو ينبغي أن يكتب لجمهور يملك حريةتغيير كل شيئ، وهو ما يعني علاوة علي إزالة كل الطبقات، القضاء علي الدكتاتوريات، والتجديد المستمر للأطر، والقلب المتواصل للنظام ، ما إن يميل إلى التحجر. إن سارتر منذ البداية ، إنما تصور الكاتب في شكل إنسان مثل الآخرين ، يتوجه للآخرين من وجهة نظر حريتهمفحسب. كانت كل فلسفته تنخرط في حركة تأملية لا تكف عن إنكار فكرة التمثيل ، ونظام التمثيل نفسه: كانت الفلسفة تغير من موقعها، كانت تهجر دائرة الحكم من أجل أن تستقر في في عالم أكثر ألوانا هو عالم "ما هو سابق علي الحكم"و"ما هو سابق على التمثيل" .إن سارتر قد رفض مؤخرا جائزة نوبل . وتلك مداومة عملية علي نفس الموقف، فزع من فكرة أن يمثل بالفعل شيئا ما ، ولو كان قيما روحية ، أو كما يقول ، من أن يكون تابعا للمؤسسة.
يحتاج المفكر الحر إلي عالم ينطوي علي حد من الفوضي ، حتي ولو كان أملا ثوريا، بذرة من ثورة دائمة ......إن ما ينقص اليوم وهو ما كان سارتر قد عرف كيف يجمعه ويجسده للجيل السابق، إنما هي شروط كلّ جامع (une totalisation(): ذاك الذي تكون فيه السياسة والمخيال والجنس واللاوعي والإرادة مجتمكعة ضمن حقوق الكل الإنساني. نحن نقتات وجودنا اليوم والأعضاء مشتتة.
إننا نتكلم عن سارتر كما لو كان ينتمي إلي حقبة ولّت. يا للحسرة .إنما نحن على الأرجح الذين ولينا في خضم النظام الأخلاقي والإمتثالي الحالي.إن سارتر ، علي الأقل إنما يسمح لنا أن ننتظر دون عنوان واضح ، لحظات مستقبلية ، وإستئنافات حيث يعيد الفكر تكوين نفسه ويعيد صنع تشكيلاته الجامعة ، بما هي قوة خاصة وجماعيةمعا.وإنما لهذا السبب يظل سارتر معلّمنا......
إن رفض جائزة نوبل هو خبر سار . أخيرا هناك أحد أن يفسر أنها لمفارقة لذيذة لكاتب ما ، لمفكر حر ،أن يقبل التشريفات والتمثيلات العمومية.....إنه قدر هذا المؤلف أن يجعل الهواء النقي يمر حين يتكلم حتي ولو كان هذا الهواء النقي هواء الغيابات، صعب التنفس.
مقتطفات من مقال نشره دلوز في مجلة arts 28 novembre 1964 p8-9
ترجمة فتحي المسكيني ومنشور بالمجلة التونسية للدراسات الفلسفية عدد40/41 سنة 2006
[right]