إليك هذا الشرح وهذه الدراسة حول القصيدة والشابي
هذه الدراسة من اعداد : سوف عبيد
وهي بعنوان :
قصيدة ـ تونس الجميلة ـ كيف بدأت و كيف وصلت ؟
تمثل قصيدة تونس الجميلة لأبي القاسم الشابي إحدى أهم قصائده بما تزخر به من توهج المكابدة و التوق إلى الاِنعتاق و بما فيها من صور المعاناة من واقع أليم يروم الشاعر فيه إلى قيم التحرر و الجمال رغم التحديات ، و القصيدة إضافة إلى هذا و ذاك وردت في صور شعرية ذات أبعاد عديدة بما فيها من مشاهد حركية محمولة على إيقاع نغمي مؤثر فجاءت قصيدة ثرية من بديع الشعر العربي المعاصر
فكيف تيسّر للشابي كتابة هذه القصيدة ؟
وكيف وصلت إلينا، خاصة أنها قد شهدت تحولات في أبياتها وعنوانها من بعد نشرها أول مرة ؟
القصيدة لم تنبثق من فراغ ولم تولد فجأة و لم تأت صدفة و إنما كتبها الشابي بعد معاناة فنية و تمرينات على نصوص شعرية قبلها بحيث أنها كانت نتيجة لعدة غربلات و تنقيحات هي بمثابة المسودّات التي سبقتها فجاءت عملا فنيا متكاملا إلى حدّ بعيد مَثلها مَثل قصائده البديعة الأخرى تلك التي نلاحظ أنها أيضا قد كانت مسبوقة بقصائد هي بمثابة النسخ التجريبية ثم باشرها الشاعر بالعناية المركزة تشذيبا و تشطيبا و إضافة و إعادة للصياغة حتى اِكتملت أخيرا في نصوص تلك القصائد الفصوص !
يعود تاريخ الأشعار الأولى لأبي القاسم الشابي إلى سنة 1923 كما أورد ذلك شقيقه محمد الأمين الشابي في مقدمة ـ أغاني الحياة ـ 1 ـ و الشعر الذي وصل إلينا من تلك الفترة الأولى يتمثل في مقطوعات وقصائد ذات سمات تقليدية واضحة تبدو منذ الوهلة الأولى في أغراضها و معانيها كما تبدو في القاموس اللغوي والصور وهي محافظة ـ إلى حد كبير ـ على الصياغة العروضية للبحور الخليلية الجزلة بما فيها من تصريع أحيانا مثل قصيدة ـ فمُنّي بوصل ـ التي أوردها في غرض الغزل وعلى بحر الطويل و دون أن يحيد عن المواصفاة القديمة للغزل :
أزينب قلبي هائم ذو صبابة
و جذوة نار الحب حشو حشاشتـي
بنفسي لحاظ سددت لي سهامها
و سدفة حسن من ظـلام ذؤابـــة
أزينب جودي بالوصال سماحة
فأحظى على رغم الحسود بحاجتي
رعى الله ساعات اللقا ما ألذها
و سحقا لعهد البعد في كل ساعـة ـ 2 ـ
أو كقوله في غزلية أخرى بعنوان ـ حبّذا البدر ـ وقد سلك فيها مسلك التصريع العروضي وجرى فيها مجرى المحسنات البديعية :
أسفر البدر من لثام الغمام
فأضاء الفضاء فيض اِبتسام
وسقى الأرض هندريس حُميّا
هُ فنامت بغبطة و ســـــلام
ثم ألقى على صدور الروابي
حُـللا حاكها الجمال السامي
حبذا البدر ، غير أن سناه
زادني حسرة و زاد هيامــي ـ 3 ـ
بل إن أبا القاسم الشابي في قصائده الأولى التي تعود إلى سنة 1923 قد كتب حتى على منوال غرض الخمريات إذ نقرأ له قصيدة ـ فتاة الحي ـ تلك التي يقول في مطلعها ـ 4 ـ :
أديري كأس خمرك واِغبقينا فنعم الشرب شرب المغبقينا
أديري سلسبيل الدن صرفا عروسا ،صرمت حينـا فحينـــا
و لا تمزج بها اِبن النحب إني رأيت الماء مــــــــبـــيــنـــــا
لقد هجعت بها الأحقاد دهرا فلا توقظ بها الداء الدفـينــــا
mو غني واِسقني قدحا دهاقا فإن الكأس تستهوي الحـزينـا
لا شك أن ذاكرة الشابي الشعرية التقليدية هي التي أملت عليه قصائده الأولى لكأنه وهو ينشئ تلك القصائد إنما يستظهر محفوظات مما علق بخاطره من عيون مدونات الشعر القديم
فيتمثل المعجم الشعري القديم بجزالة ألفاظه و متانة تراكيبه و يكاد ينسخ منها الصور الجمالية النمطية منذ العصر الجاهلي للمرأة ضمن مقاييسها التقليدية ، وضمن سياقات و مقاسات الأسلوب البلاغي القديم في التعجب و التشبيه ، و المحسنات البديعية.
فالشابي بدأ مسيرته الشعرية مقلدا ماهرا سواء في الأغراض و المعاني أو في الصور و المعجم اللغوي و حتى في الأسلوب الفني و الإيقاع الخليلي ، بحيث أننا لا نكاد نجد له ما يخالف ذلك على مستوى الصياغة العامة للقصيدة.
أما على مستوى الوجدان فهو لم يتجاوز مشاعر الحسّ المظهري إزاء المرأة و لم يخرج عن المعاني المعروفة في الغزل ، أما في موضوع الوطنيات فقد اِكتفى بمعاني الحماسة و الشكوى و الغربة و الحنين إلى الأوطان كقوله من قصيد له بدون عنوان ـ 5 ـ
ما لي و للوطن المُزورّ جانبـــه
ما الدار إلا التي ينمو بها أملـــــــي
لا أرتضي الأرض ألقى في مناكبها
ذلا و همتي الشمـاء بالحمــــــــل
أبكي لنائحة في ليلة فحمت
أرجاؤها فدجاها غيــر منتــقــــل
شقت بصيحتها صدر الدجى و بكت
بأدمع كعزالى الأسحم الهطــــل
تبكي وحيدا قضى بالقفر من سغب
قد كان يرضى من الأنهار بالوشل
لكنه لم يجد في الناس مرحمة
فمات مسغبةً وا خيبة الأمــــــل
تؤكد إذن هذه القصائد الأولى للشابي أن قريحته المبكرة قد اِنبثقت جذورها من ثقافته التقليدية المتينة التي نهلها من أسرته العريقة و من والده المتخرج من التعليم الزيتوني في تونس ومن التعليم الأزهري بمصر فتمكن الشابي من ناصية الملكة الشعرية و اِقتدر على التصرف في الأدوات الفنية وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من سنوات عمره وهذا ما جعله منذ سنة 1925 يدخل مرحلة جديد وذلك مع كتابته لقصيدة تونس النادبة ـ 6 ـ وهي قصيدة بستة و خمسين بيتا و بتاريخ 3 فيفري 1925
وهي تعتبر القصيدة الأولى التي وصلت إلينا والتي لم يلتزم فيها أبو القاسم الشابي بوحدة القافية ـ أو الرّوي على التدقيق ـ و تخفّف فيها كذلك و إلى حدّ بعيد من الأسلوب التقليدي الفخم أما الموضوع فهو خارج عن التصنيف القديم للأغراض و إنما جعل القصيدة تنحو إلى التصوير و الرمز و الحكي لتعبر عن الوطنية في معاني الأمومة و المحبة والولاء و الألم والأمل أيضا وقد وردت في أغلبها مثنى مثنى على هذا المنوال :
بين أفنان الرياض الزاهرة و غياض صاغها كف الجـمـــــال
و نسيم البحر ينساب عليلا في لهاة الليل من فوق الرمـال
و شعاع البدر قد مدّ قناة في الفضا تغمر أمواج الخـضـــم
بجمال يستبي النفس مثيرا في قلوب الناس بــرءا و ألــــم
خطرت هيفانة ذات لعس صاغه الخلاق من ماء الغلــــس
و أثيث ذي ظلام حــالـــك في دجى أمواجه قلبي اِنطمس
ومحيا هو مصباح منيـــــر في ليالي اليأس للروح الكسير
أسبغ الحزن عليه مسحة تطفر الألباب أغوار الصـــــدور
وجفون تسكب الحب اللطيف في كؤوس تسكر اللُبّ الحصيف
سَلبت مني الأماني مثلما تُسلب الأغصانُ أيام الخريـــــف
ثم تتواصل الأبيات لترسم لوحات طبيعية شفافة على لسان اِمرأة تعاني من ويلات الدهر و ما تلك المرأة إلا رمز لتونس في سنوات عهد الشابي حيث صوّر الشابي معاناة الجيل الجديد و شجونه و طموحه لغد مفعم بالفرح و المحبة و الحرية :
فأتت من حيث لا أدري وقد حَفّها نور رهيب سـاحـــــــــــر
و سعت نحوي و قالت إنني تونس أمّكم يا حائــــــــــــــــر
قبلتني بحنان قبلــــــة فجرت في النفس ينبوع الحيـــاة
ثم قالت بجلال جاثـــية ليبارككم إلــــــــه الكائنـــــــات
فتناولت رداها لاثمــــا طرفه المخضل بالدمع الهتــــون
صائحا : يا أمُّ لا تكتئبي سوف ترضين علينا بعد حيــــــن
و تنتهي القصيدة بالأمل بقوله :
فعَلتها بسمة فتانـــــة و توارت مثل ربّات الجنــــــــاح
و بقت أصداؤها في مسمعي هازجات للدجى حتى الصبـاح
ومن قصائد الشابي التي تنوعت فيها القافية أيضا قصيدة ـ النجوى ـ وهي مؤرخة في 2 أفريل 1925 حيث يقول في مطلعها :
قف قليلا أيها السـاري القــمـر واِصــطبِرْ
يا سميري في أويقـات الـكــدر و الضـجرْ
واسقني من جدول النور البديع قََــدَحَــــا
علّني أفهـم هَـيْنُوم الــربــــيع إن صَــحا
كم فؤاد إذ تولـته الشــــجـون و الهمومْ
بثّ أسلاكك والــدمع هــــتـون ما يــرومْ ـ 7 ـ
و لئن تبدو مثل هذه القصائد للشابي قد تخلصت بوضوح من نمطية البحور العروضية لتبحث عن تشكيل إيقاعي جديد ضمن العروض نفسه ، فإنها تبدو من ناحية أخرى في بعض ثناياها لم تتخطّ التكلّف في الكلمات و الصور، و ذلك متأتٍ من بقايا المرحلة الأولى التي نسج فيها على منوال أسلوب القدماء.
فتمثل هذه القصائد إذن أحسن تمثيل المرحلة التجريبية التي اِنتقل فيها الشابي من مرحلة التقليد الصارم للنماذج القديمة إلى آفاق البحث عن الآفاق الأرحب لنحت أسلوبه الخاص ذلك الأسلوب الذي سيبدو بوضوح بداية من قصيدة ـ تونس الجميلة ـ
وهي قصيدة في خمسة عشر بيتا و بتاريخ 2 جوان 1925 وقد نشرها الشابي أولا تحت عنوان ـ الصوت الكئيب ـ ضمن مختارات الشعر من كتاب ـ الأدب التونسي في القرن التاسع عشر ـ لزين العابدين السنوسي ـ الذي صدر سنة 1927 بتونس غير أن الشابي لم يثبت منها إلا البيتين الأخيرين فحسب ومع اِختلاف الترتيب وجعل لهما عنوان ـ من وراء الظلام ـ في صدر النسخة التي أعدّها للنشر في مصر و التي لم يتسن لها الظهور وقتذاك فكان لابد من اِنتظار أكثر من عشرين عاما ليعزم شقيقه محمد الأمين الشابي على نشر الديوان عن دار الكتب الشرقية التي كانت بباب المنارة بتونس العاصمة فطبعته هذه الدار بالقاهرة بدار مصر للطباعة بتاريخ 1955 متضمنا مقدمة مهمة هي عبارة عن وثيقة تاريخية وأدبية مفيدة حول الشابي لسنا ندري لماذا تمّ الاِستغناء عنها ضمن الديوان في طبعة المجموعة الكاملة لآثار الشابي الصادرة سنة 1994 ، وقد أضاف محمد الأمين الشابي للديوان الأصلي القصيدة كاملة بعنوانها ـ تونس الجميلة ـ مع ثماني قصائد أخرى و جعل قصيدة ـ تونس الجميلة ـ مباشرة بعد ذينك البيتين ـ من وراء الظلام ـ وكتب تعليقا هذا نصه : هذان البيتان اِستبقاهما الشاعر لهذا الديوان من قصيدة نظمها في ذي القعدة 1343 وإلى القارئ نصها بعنوانها كما وجدناه في مسودات الشاعر ـ 8 ـ
و القصيدة تمثل بداية مرحلة التحول الحاسمة في مسيرة الشابي الشعرية لأنها القصيدة المفصل التي نقرأ فيها علامات التطور الفكري و الفني لدى الشابي ذلك أنه بعدها سيشرع في كتابة نصوص عديدة من الشعر النثري أيضا فنرى منذ المطلع أنه يعلن القطيعة مع السابق قائلا في مطلع الفصيدة :
لست أبكي لعسف ليل طويل
أو لرَبع غدا العفاءُ مَراحــهْ
إنما عبرتي لخطب ثقيـــــــل
قد عرانا ولم نجد من أزاحه ـ 12 ـ
فمطلع القصيدة كالبيان العام الذي يعلن فيه الشاعر أنه قد دخل مرحلة جديدة تنافي ما دأب عليه من شجون البكاء على أطلال الحبيبة في قصائده السابقة التقليدية و أن همّه الحقيقي أصبح ما يعاني منه شعبه من أرزاء ومحن فالقصيدة إذن إعلان عن وعي جديد و بداية تحول قادم.
إن المتأمل في قصيدة ـ تونس الجميلة ـ يمكن أن يجد لها بسهولة وثيق الصلات بينها و بين القصيدة السابقة ـ تونس النادبة ـ بداية من العنوان نفسه الذي تحول من ـ تونس النادبة ـ إلى ـ الصوت الكئيب ـ في النشرة الأولى للقصيدة التي وصلت إلينا ثم جعله الشابي ـ من وراء الظلام ـ و لبيتين منها فقط وقد أمسى أخيرا مستقرا و مشتهرا عنوان ـ تونس الجميلة ـ الذي وجده محمد الأمين الشابي في مسودات الشاعر وبذلك تحوّل هذا العنوان و تبدّل رأسا على عقب و من الضد إلى الضد فيعبر بذلك عن مقاصد معينة يمكن تحليلها بالنظر إلى الظروف التاريخية الحافة بتلك السنوات المتوالية.
كانت تونس في القصيدة السابقة في مقام الحديث عن الأم فتحولت في هذه القصيدة إلى مقام خطاب الحبيبة التي تُفدى بالدماء :
أنا يا تونس الجميلة في لــجّ
الهوى قد سبحت أيّ سباحهْ
شِرعتي حبك العميق و إني
قد تذوقت مُرّهُ و قراحـــــه
لست أنصاع للّواحي و لو متّ
و قامت على شبابي المناحه
لا أبالي ، و إن أريقت دمائي
فدماء العشاق دوما مباحــه
و بطول المدى تريك الليالي
صادق الحب و الولا و سجاحه
فتداخلت في القصيدة صورة الحبيبة و ما يحفّ بها من لواعج الهوى بشجون الوطن و ما صار ينداح منه من معاناة الرزايا و البلايا و الفداء
و في مستوى الصورة الشعرية فإننا نلاحظ ظهور صورة البطل الملحمي وقد رسمها بكثير من المهارة و الدقة والإيحاء و جعلها حيّة بالصور والحركات و المشاهد و المقابلات :
كلما قام في البلاد خطيب
موقظ شعبه يريد صلاحه
ألبسوا روحه قميص اِضطهاد
فاتك شائك يردّ جماحــــه
أخمدوا صوته الإلهيّ بالعسف
أماتوا صداحة و نواحـــــه
و توخّوا طرائق العسف و الإرهاق
تَوًّا و ما توخّوْا سماحــــه
و ثمّة ملاحظة عابرة في هذا البيت الأخير حيث تبدو لنا كلمة ـ الإرهاق ـ دون الكلمة التي قبلها من حيث الوقع و لعلها في الأصل أنها ـ الإرهاب ـ وهي تنسجم أكثر مع النسبة السياق العام و لعل أِستبدال الباء بالقاف منذ نشرتها الأولى في كتاب زين العابدين السنوسي سنة 1927 كان بسبب خطإ مطبعي أو عن قصد من الناشر أو الشاعر لتلافي الرقابة الاِستعمارية في ذلك العهد وقد اِستعمل الشابي كلمة ـ الإرهاب ـ ضمن قصيدة ـ فلسفة الثعبان المقدس ـ كما هو معلوم في قوله :
لا عدل ، إلا إن تعادلت القوى و تصادم الإرهاب بالإرهاب
إن هذه القصيدة تبيّن تفاعل أبي القاسم الشابي مع الحركة الوطنية في تعبيراتها السياسية و الاِجتماعيية والنقابية و الثقافية و في أبعادها المغاربية و العربية ففي تلك السنة و ما قبلها من السنوات ظهرت المقاومة الوطنية في ليبيا و المغرب و في بلاد الشام و العراق ضد الاِستعمار الإطالي والفرنسي و البريطاني أما في تونس فقد شهدت البلاد أحداثا عديدة من بينها الاِنتفاضة المسلحة في الجنوب التونسي بالإضافة إلى ظهور الحركة النقابية بزعامة محمد علي الحامي الذي أودع السجن يوم 5 فيفري 1925 و بدأت محاكمته يوم 12 نوفمبر 1925
فالقصيدة إذن وليدة ذلك المناخ النضالي الزاخر ـ 9 ـ الذي اِستشرف فيه الشابي ـ على طريقة المناضلين الثوريين ـ تباشير النصر في حالكات المحن ولعل عنوان ـ تونس الجميلة ـ يسترجع بصورة عكسية عنوان كتاب الزعيم عبد العزيز الثعالبي ـ تونس الشهيدة ـ الذي ظهر قبل سنوات قليلة من كتابة القصيدة و الذي كان قد اِنتشر بصفة سرية في الأوساط الطلابية وقتها .
أما على مستوى الإيقاع العروضي فقد كانت القصيدة السابقة ـ تونس النادبة ـ مزدوجة القافية مثنى مثنى فصارت في قصيدة ـ تونس الجميلة ـ موحدة القافية ـ الحاء و الهاء ـ وهما صوتان يرشحان بإحساس الألم و التأوه
و قد تحوّل بحر القصيدة في القصيدة السابقة من ـ الرّمَل ـ إلى بحر ـ الخفيف ـ في قصيدة ـ تونس الجميلة ـ مع العلم أن بحر الرّمل قائم على أساس توالي تفعيلة ـ فاعلاتن ـ بينما يقوم البحر الخفيف على أساس تكرار تفعيلتي ـ فاعلاتن مستفعلن ـ فعمد الشابي إلى تحويل نسبيّ في الإيقاع أيضا معتمدا على الإيقاع السابق من دون الخروج عنه تماما.
أما خاتمة القصيدة فقد ظلت مثل القصيدة السابقة مفتوحة على الأمل باِنتصار الجانب النيّر على الجانب المظلم و باِستشراف الأمل في التغلب على المحن لتعود العزة للبلاد و شعبها:
إنّ ذا عصر ظلمة غير أني
من وراء الظلام شِمتُ صباحه
ضيّع الدهر مجد شعبي و لكن
ستردّ الحياة يوما وشــاحــــــه
فقصيدة ـ تونس الجميلة ـ يمكن أن تُعتبر القصيدة المفصل التي نجد في بعض معجمها بقايا مرحلته التجريبية كما نلاحظ فيها بوادره التجديدية ونرى من خلالها مشارف عوالمه الشعرية تلك التي ستلوح بصفة أوضح و أشمل في قصائده العلامات الأخرى كقصائد ـ إلى الطاغية ـ و ـ صلوات في هيكل الحب ـ و الصباح الجديد و غيرها…
إن القصيدة البديعة هي تلك التي تختزن ما سبقها من القصائد فتكتسب منها صداها و تضفي عليه صوتا جديدة يزيدها علوا واِمتدادا و إن قصيدة الشابي ـ تونس الجميلة ـ هي من تلك القصائد التي تختزن في بعض أبياتها ألق بعض القصائد القديمة وأضافت إليه من ألقها الجديد حيث تأتينا من بعض أرجائها مثلا حائية السّهروردي التي يقول في مطلعها :
أبدا تحنّ إليكمُ الأرواح
ُو وِصالكم ريحانُها و الرّاح
و قلوبُ أهلِ وِدادِكم تشتاقكم
و إلى لذيذ لقائكم ترتاح
وا رحمةً للعاشقين! تكلّفوا
سِتر المحبّة و الهوى فضّاح
بالسرّ إن باحُوا تُباحُ دماؤهم
و كذا دماءُ العاشقين تُبـاح… ـ10 ـ
و نلاحظ في القصيدة كذلك صدى بعض القصائد التي اِنتشرت في عصر الشابي وخاصة لدى الوسط الزيتوني كقصيدة الشيخ محمد الخضر حسين التي كتبها في صديقه الشيخ محمد الطاهر اِبن عاشور و التي يقول في مطلعها :
بَسَط الهناء على القلوب جناحا
فأعاد مُسودّ الحياة صباحا
إيهِ مُحيّا الدّهر إنك مؤنسٌ
ما اِفترّ ثغرُك باسمًا و ضّاحا
و تعُدّ ما أوحَشْتَنا في غابر
خالا بوجنتك المضيئة لاحا
لولا سوادُ الليل ما اِبتهج الفتى
إن آنس المصباحَ و الإصباحَا ـ 11 ـ
يظهر بوضوح إذن أن الشابي قد بدأ يكتسب في قصيدة ـ تونس الجميلة ـ شاعريته الخاصة بعد أن اِستوعب التراث الشعري القديم و ملأ وطابه من أدب عصره و تفاعل مع مستجدات واقعه فراح يقطع إلى حدّ بعيد مع قصائد التقليدية و التجريبية لينطلق منذ قصيدة ـ تونس الجميلة ـ نحو فضاءات أرحب و مناخات شعرية أخصب.
غير أنه لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل الشابي لا يدرج هذه القصيدة كاملة عند نسخه لديوانه ـ أغاني الحياة ـ و اِكتفى منها ببيتين فحسب عند صدر الديوان و الحال أن القصيدة قد نشرها كاملة من قبل !
هل أراد بذلك أن لا يحرج بنبرتها الحادة أحدا خاصة و أنه كان قد أعد تلك النسخة لنشرها في مصر ؟
إن الأمر يتطلب التمحيص و التدقيق إذا علمنا أيضا أن الشابي كان يغيّر أحيانا في البعض من قصائده و يتعهدها بالمراجعة من حين لآخر كما ذكر شقيقه محمد الأمين الشابي في المقدمة ـ 12 ـ وهذا ما يؤكد أن مدونة الشابي الشعرية و رسائله و غيرها ما تزال تتطلب الجمع والتحقيق والبحث و الدرس وما اِختلاف ترتيب قصائد ديوان ـ أغاني الحياة ـ و عددها من طبعة إلى أخرى بالإضافة إلى تشتت نصوصه العديدة في الشعر النثري إلا خير مثال على ذلك ـ 13 ـ ناهيك عن مجموعة عشر رسائل أخرى على الأقل قد كان راسل بها صديقه الشيخ المختار بن محمود ماتزال مخطوطة لم تر النور بعد ـ 14 ـ مما يؤكد أن تراث هذا الشاعر الفذّ ما يزال بحاجة إلى كثير من العناية رغم ما بذله السابقون من اِجتهادات جمّة في جمعه ونشره و درسه.
………………………
الهوامش
ـ 1 ـ أغاني الحياة ـ أبو القاسم الشابي ـ الدار التونسية للنشر ـ
ص 13 ـ تونس 1966
ـ 2 ـ قصائد تنشر لأول مرة ـ الأعمال الكاملة للشابي ج 1 ـ
ص ـ 303 ـ الدار التونسية للنشر ـ تونس 1984
ـ 3 ـ نفس المصدر ـ ص 306
ـ 4 ـ نفس المصدر ص 310
ـ 5 ـ نفس المصدر ص 308
ـ 6 ـ نفس المصدر ص315
ـ 7 ـ نفس المصدر ص 22
ـ 8 ـ قصيدة ـ الصوت الكئيب ـ في كتاب ـ الأدب التونسي في القرن الرابع عشر ـ الجزء 2 ـ زين العابدين السنوسي ـ الدار التونسية للنشر ـ تونس ـ 1979 ص 76 ـ
واُنظر البيتين الأخيرين من القصيدة مع اِختلاف الترتيب بعنوان ـ من وراء الظلام ـ في صدر الديوان ـ ص 13 ـ الطبعة الأولى لديوان أغاني الحياة ـ الصادر عن دار ـ منشورات الكتب الشرقية ـ تونس 1955
و اُنظر القصيدة كما صارت مشهورة بعنوانها الحالي ـ أغاني الحياة ـ الدار التونسية للنشر ـ تونس 1966 ـ ص 24 ـ
و اُنظر الديوان ضمن مجموعة الشابي ـ المجلد الأول ـ وزارة الثقافة ـ تونس 1994 ـ ص 24 ـ
ـ 9 ـ MOHAMED ALI ELHAMI ET LA FRANCE
-KHEMAIS EL ABED-
centre de publication universitaire – Tunis – 2004
p 203 – 223
ـ10 ـ الموسوعة العالمية للشعر العربي www.adab.com
ـ 11 ـ ديوان خواطر الحياة ـ للشيخ محمد الخضر حسين ـ تحقيق علي الرضا التونسي ـ الطبعة الثالثة ـ دمشق 1978 ـ ص 65 وقد مدّنا به الدكتور جمال الدين دراويل مشكورا
ـ 12 ـ اُنظر مثلا في الديوان ـ مجموعة الشابي ـ المجلد الأول ـ وزارة الثقافة1994 ـ ص 17 و ص 30 و ص 51 و غيرها
ــ 13 ـ حركات الشعر الجديد بتونس ـ لصاحب المقال ـ دار الحرية ـ تونس 2008 ـ ص26
ـ14ــ عشر رسائل أخرى لأبي القاسم الشابي ـ موقع www.soufabid.com
lمنقول