د. أحمد عبد الحليم عطية
أولا : نيتشه والفكر الفلسفي المعاصر
يذكر لنا كارل لوفيت. K.Löwett وهو يتابع في فكر القرن التاسع عشر في كتابه من هيجل إلى نيتشه von hegel zu nietzsche أنهما ( أي هيجل ونيتشه) يمثلان الحدين اللذين تحرك بينهما الحدث الأصلي لتاريخ الفكر الألماني في القرن التاسع عشر، هيجل يبدو بعيدا جدا عنا بينما يبدو نيتشه قريبا منا، هيجل يمثل الاكتمال ونيتشه البداية الجديدة.(1) ويرى أن تأثير نيتشه لم يقتصر على الفلسفة بما هي كذلك، و إنما يخترق مجمل الحياة الروحية والسياسية(2) ويرى أوديف في كتابه" على درب زرادشت" أن هيجل يمثل الماضي التاريخي في الفكر الفلسفي الغربي صفحته الأشد إشراقا، ونيتشه يمثل حاضره ومستقبله(3) والحقيقة فيما يرى أن فلسفة نيتشه هي محاولة من أجل تحويل البحث في الوجود إلى البحث في القيمة والتقييم.
تنطلق هذه الدراسة التي نقدمها عن القيم في فلسفة نيتشه من فرضية أساسية هي أن فلسفة نيتشه بأكملها محاولة من أجل إعادة تقييم القيم، أو قلب القيم – Trans-valuation حيث يمكننا أن نقول أنه رغم تعدد وتنوع القضايا التي شغل بها الفيلسوف- إرادة القوة، العود الأبدي، العدمية - وكانت محور كتابات الباحثين في فلسفته، التي يظهرنا التحليل أنها مشغولة بالوجود والحقيقة والعقل والمعرفة والفن والتأويل، ما هي في الأساس ألا قلب للميتافزيقا الغربية واستبدال مشكلة الوجود بمشكلة القيمة. "إن النقد الجذري للفكر الميتافيزيقي بأكمله – فيما يرى نيتشه – لا يتحقق ألا بكشف حقيقته التي تكمن في أنه مجرد أخلاق"(4) معنى ذلك إن أساس الميتافيزيقا والبحث الأنطولوجي هو الأخلاق والقيم.
لقد استقطبت فلسفة نيتشه الجدل الجاري اليوم بين الفلاسفة المعاصرين حول العقلانية واللاعقلانية(5) ، الحداثة وما بعد الحداثة،(6) النزعة الإنسانية وفلسفة موت الإنسان.(7) ومارست تأثيرها الكبير علي من تشغل كتاباتهم الصدارة في عالم الفلسفة اليوم من الفلاسفة الفرنسيين ميشيل فوكو M.Foucault (8) وجيل دولوز G.delewzeوجاك دريدا من جانب وفلاسفة فرانكفورت ودعاة الحداثة والعقلانية والتنوير والإنسانية والتقدم من جانب أخر(9)فهى فلسفة مشدودة كالوتر بين مؤيديها ونقادها، مثلما كانت بالأمس القريب مصدر أهتمام فلاسفة الوجودية ياسبرز Jasper وهيدجر(10) وبدوي في الفكر العربي المعاصر(11) كما كانت في الوقت نفسه موضع نقد في كتابات الماركسيين وغيرهم من نقاد نيتشه
ثانيا: نيتشه والنظرية العامة للقيمة
وإذا كانت القراءات المعاصرة لدى فلاسفة ما بعد الحداثة : فوكو ودولوز وديريدا تنطلق من نيتشه، ومن القراءة الهيدجريه لفلسفته التي تجعل منه أخر الميتافيزيقيين الكبار في الغرب. فإن هيدجر نفسه، الذي يمكن أن نعده نيتشاويا في مرحلة من مراحل تفكيره(13) قد أكد وهذا ما يهمنا في هذا السياق على تغلغل القيم في فلسفة نيتشه.
أن فكرة القيمة التي نشأت في القرن التاسع عشر وترتبت على المفهوم الحديث للحقيقة، هي فيما يقول هيدجر أخر خلف للأجاثون (الخير) واضعفه(14)وبقدر ما تتغلغل "القيمة والتفسير من خلال "القيم" في ميتافزيقا نيتشه على هذه الصورة المطلقة التي عبر عنها بعبارته المعروفة "قلب جميع القيم" بقدر ما يمكننا أن نعد نيتشه نفسه– الذي غابت عنه كل معرفة بالأصل الميتافزيقي "للقيمة" أشد الأفلاطونيين تطرفا عبر تاريخ الميتافزيقا الغربية. والسبب في هذا أن نيتشه قد أعتبر أن القيمة هي الشرط الذي وضعته "الحياة نفسها" لإمكان الحياة، وبهذا فهم ماهية "الأجاثون" فهما بعيدا عن كل تحيز أو حكم مسبق وقع فيه أولئك الذين يلهثون وراء المسخ الذي يسمونه القيم الصادقة في ذاتها(15).
ويستشهد هيدجر بخاطرة دونها نيتشه عام 1885 في إرادة القوة وهي الحكمة رقم 493 والتي يقول فيها " إن الحقيقة هي ذلك النوع من الخطأ الذي لا يستطيع نوع معين من الكائنات الحية أن يعيش بدونه. إن قيمة الحياة هي الشئ الحاسم في نهاية الأمر"(16) وهي كما سنجد مصدر القيم. وهذا الاهتمام الذي يضع فلسفة نيتشه في بؤرة الفكر المعاصر مما يدفعنا إلى الوقوف أمام فلسفة القيم كما قدمها لنا، وذلك يتم من وجهة نظري على مستويين : الأول بيان ما قدمه نيتشه من كتابات متعددة تدور كلها حول إنقلاب القيم والمستوى الثاني تناول القضايا المختلفة التي عرض لها باعتبارها فيما نرى تعبيرا عن القيم بالمعنى الواسع، الذي يرادف البحث في الوجود، وهذا لن يتم إلا بتحليل مفهومه للجينالوجيا مقابل مفهوم الميتافزيقا. فالجينالوجيا هي منهج نيتشه الذي يتناول من خلاله فهم وتأويل الحقائق
لقد سعى نيتشه فيما يرى دولوز إلى خلق مشكلة القيم والتقويم وهو الذي وجهه الفلاسفة إلى تأسيس الأكسيولوجيا. فالقيم في نظر عدد كبير من الباحثين هي محور فلسفة نيتشه، بل أنه حول مشكلة الوجود بأسرها إلىمشكلة قيمة ويكفي من أجل التدليل على أثر كتابات نيتشه على نشأة نظرية القيمة المعاصرة أن نذكر بعض أقوال فلاسفة القيم المعاصرين، ونستشهد خاصة بايربان W.M Urban الذي توقف أمام نيتشه في عدد كبير من دراساته موضحا أثرها يقول في "نظرية القيمة" أن أكبر إسهام في هذا المجال كان دراسات إعادة تقييم القيم، والاهتمام العام الذي أثاره نيتشه في كتابه "جينالوجيا الأخلاق" وجد صدى علميا في دراسة ظواهر وأسباب وقوانين تحول القيمة (17)فهو يرجع القيمة إلى الحياة، حيث يفترض أن الحياة واستمرارها قيمة(18) وهذا الكتاب كما يقول – لا يعرض لنا فقط أقتراحا بشأن إعادة تقييم القيم، ولكنه يشير إلى مشكلة القيم خاصة على أساس أنها الوظيفة المميزة للفلسفة في المستقبل… وليس من المبالغة أن نشير فيما يرى ايربان إلى التأثير المباشر وغير المباشر الذي قدمه نيتشه لتطور الإكسيولوجية الحديثة(19) وهذا ناتج من وجهة نظره إلى التحول من المذهب العقلي إلى المذهب الإرادي والنظام النشط للروح الإنساني كما نجد في نداء نيتشه إعادة تقييم القيم(20)ويخبرنا ايربان أن أعظم مغامرة روحية في حياته كانت تلك الليلة التي قرأ فيها أثناء دراسته في ألمانيا كتاب نيتشه "جينالوجيا الأخلاق" يقول : مع بزوغ ضوء الصباح وجدت نفسي أتفحص حطام معتقداتي، وأنا في حالة مزاجية غريبة، حالة ساورني فيها إحساس بأن هناك مهمة عظيمةينبغي على القيام بها.(21)
يقوم عمل نيتشه على إدخال مفهومي المعنى والقيمة إلى الفلسفة، أنه يريد أن يتجاوز الميتافزيقا الغربية كلها بتحويلها إلى جينالوجيا، وهو لم يخف يوما أن فلسفة المعنى والقيم يجب أن تكون نقدية. وأحد الحواجز الرئيسية لعمل نيتشه فيما يقول دولوز Deleuze هو كون كانط لم يقم بالنقد الحقيقي، لأنه لم يعرف أن يطرح مشكلته باصطلاحات القيم بينما فلسفة نيتشه، كما نقرأ في أول صفحات كتاب دولوز "نيتشه والفلسفة" تنطلق من الواقعة التالية : أن فلسفة القيم كما يؤسسها ويصورها هي الأنجاز الحقيقي للنقد(22) ينبغي أن نضع نقد نيتشه موضع التساؤل، ما يمثل في نظر نيتشه نفسه قراراً أساسيا لا يستلزم أي إعادة فكرية ، وفكرة أساسية يعمل أنطلاقا منها. إن نيتشه نفسه يقفز من فوق المشكلة الأنطولوجية في القيمة – كما يقول أوجين فنك – ويقيم مساءلته واشكاليته على الخلفية غير الواضحة لظاهرة القيمة، ولا يمكن أن نفهم في أي منحى فلسفي يتجه في مقولاته ومفاهيمه الموجهة للنقد الثقافي والسيكولوجي والجمالي، لا يمكن أن نفهم كل ذلك ألا إذا أوضحنا قناعة نيتشه الجوهرية وتفسيره للوجود على أنه قيمة.(23)
يستتبع مفهوم القيمة في رأي دولوز قلبا نقديا، فمن جهة تظهر القيم أو تعطى كمبادئ. تفترض تقويم ما قيماً، تقدر، انطلاقا من الظاهرات لكن من جهة أخرى وبصورة أشد عمقا، إن القيم هي التي تفترض تقويمات، "وجهات نظر، تقديرات" تشتق منها قيمتها. والمشكلة النقدية هي قيمة القيم، التقويم الذي تنشأ منه قيمتها، أي مشكلة خلقها.(24) ويعرض كريستيان ديكام، لما أسماه الأنقلاب النيتشوي في دراسته "فلسفة القيم" موضحا الدور الذي لعبه فرويد وماركس ونيتشه في الفكر الحديث وأثر فلسفة نيتشه على نظرية القيم(25).
ثالثا: كتابات نيتشه في القيم
وسنتناول في الفقرات التالية أعمال نيتشه في القيم سنتابع تحليلاته وكيفية إنجازه للمهمة التي نهض بها ، وكيف تطورت في مؤلفاته المختلفة ويمكن القول أن كتابات نيتشه جميعها، حتى وأن كانت لا تحمل في عناوينها مصطلحات القيمة والأخلاق، فهي تدور في إطارها وربما في تفاصيل بنيتها الداخلية حول القيم. فالمعادلة الأساسية "الوجود=القيمة" إنما نشكل فيما يقول فنك Eugen Fink العنصر النوعي في فلسفته ولا يمكننا حذفه دون أن نحذف نيتشه بكامله معه، فهو لديه مبدأ إجرائي أساسي. إن نيتشه لا ينظر إلى الميتافيزيقا من وجهة نظر أنطولوجية ، بل من وجهة نظر أخلاقية. إن نيتشه كما يؤكد فينك لا يتفحص التصورات الأنطولوجية بل يعتبرها فقط بمثابة أعراض تشير إلى نزعات من الحياة، أنه لا يطرح مشكلة الوجود على الأقل بالطريقة التي بحثت بها طوال قرون، فمشكلة الوجود تستوعبها مشكلة القيمة (26)
وإذا كان هناك من يقسم حياة نيتشه وأعماله إلى مراحل زمانية متعددة(27) مقابل من يرفض هذا التقسيم باعتبار أن أخر أعمال الفيلسوف ليست بالضرورة أكثرها نضجا وجراءة فأننا سنتابع تحليل أعمال نيتشه وفقا لتقديمه لها في كتابه "هذا هو الإنسان". Ecco Home ويحدد لنا نيتشه مهمته في الفقرة الثانية من تصديره للكتاب ويقدمها لنا عن طريق السلب، فهو يرفض أن يقيم أوثانا جديدة وأخر ما يعد به هو أن يحسن البشرية. فمهمته هي تحطيم الأوثان. ويفسر لنا نيتشه ما يقصده بالأوثان وهي المثل الزائفة الذين نخلقها بديلا عن الواقع وما تقدمه المثل من قيم عليا بالضرورة على النقيض والضد من قيم الحياة والإنسان.(28)
ونستطيع الوقوف على ما أنجزه من مهمته بتحديد توجهاته في كتبه المختلفة كما يعرضها لنا في هذا هو الإنسان. وهو يرى أن الأخلاق Morality قد زيفت كل شئ نفسيا حين حولت الحب إلى غيرية"(29) بينما يرى أن كل تسوية للحب للحياة الجنسية هو جريمة ضد الحياة(30) ويؤكد لنا على الأساس الذي يقيم عليه الأخلاقية وهو الحياة، يظهر ذلك في أول مؤلفاته ميلاد التراجيديا The Birth of tragedy فتأكيد قيمة هو أكثر الحقائق ثباتا في العالم والحقيقة (31)
ومن هنا يبرز العنصر الديونيسوسي ويعلن منه مقابل العنصر الأبولوني. يقول في الفقرة الرابعة بزهو المنتصر "دعوني أؤكد نجاحي على ما تم خلال الأعوام الألفين التي عارضت الطبيعة وحطت من قدر الإنسانية ، إن تأكيد الحياة، هو الذي ينهض برفعة البشرية وتهيئة حياة خصبة مليئة بالوفرة.(32) وسوف نتناول على التوالي تحليلات نيتشه للقيم كما ظهرت في "إنساني ، إنساني للغاية" "ما وراء الخير والشر" جينالوجيا الأخلاق، والصورة التي ظهرت عليها في "إرادة القوة" بل أن كتبه الأخرى تعرض بشكل غير مباشر أراءه الأخلاقية فهو في مولد التراجيديا 1872 يرى أن المأساة الأغريقية تحدي بطولي لقوى الموت وأقبال على الحياة و "كتاب فجر" أو خواطر في الأوهام الخلقية ، يقدم إنسان حفر في الأرض وسار في الظلام ثم صعد إلى النور، إلى فجره الخاص . هبط إلى الأعماق ليهدم أسس البناء الخلقي القائم ويهدم الثقة بهذه الأسس؛ الفضيلة ، حب القريب ، أحتقار الجسد، كل ما هو مسيحي، وكل القيم السائدة ، وذلك من أجل أخلاق جديدة ، وفي العلم المرح يتخذ نفس الموقف الذي أتخذه في "فجر" ضد الأخلاق السائدة . أنظر تحليل يوحنا قمير لمؤلفات نيتشه في كتابه : نيتشه نبي المتفوق، منشورات دار الشرق، بيروت 1986 وكان كتاب هكذا تكلم زرادشت دفاعا عن الحياة، الجسد، في وجه النفس والأخلاق التقليدية، والميتافزيقا ، لقد اختار نيتشه زرادشت كمحطم للأخلاق القديمة باسم قيم جديدة مختلفة كلية ، يانكو لافرين : نيتشه ، ترجمة جورج جحا، ص128
أ- يظهر لنا نيتشه في "إنساني إنساني للغاية" 1878 كثيرا من القضايا المتعلقة بالأخلاق والقيم، التي سنجدها فيما بعد أكثر تفصيلا وعمقا في كتاباته اللاحقة خاصة "ما وراء الخير والشر" و "جينالوجيا الأخلاق" و يتكون الكتاب الأول من " إنساني إنساني للغاية" من تسعة فصول تدور حول الأخلاق بالمعنى الواسع. ويتناول المبادئ والغايات، خدمة لتاريخ الأحاسيس الأخلاقية، الحياة الدينية، روح الفنانين والكتاب، خصائص الحضارة الراقية والحضارة الدنيا، الإنسان في المجتمع، المرأة والطفل ، نظرة على الدول والإنسان وأخيرا وحيدا مع نفسه.
ويهمنا أن نتوقف عند القضايا الأخلاقية والقيمية كما ظهرت للمرة الأولى في هذا العمل وكيف تطورت في أعماله اللاحقة خاصة أن نيتشه يشير إليه مرات عديدة في الدراسة الأولى من "جينالوجيا الأخلاق" باعتبار أن ما جاء في الأخير توسيعا لبعض ما جاء في إنساني، وأول ما نود الإشارة إليه في هذا السياق هو إحساس نيتشه القوي بصواب أفكاره وتقديمها وكأنها قدرية وبثقة مستقبلية، ويرى أن البشر الذين سيتقبلون هذه الأفكار في البداية بنوع من الريبة سرعان ما تغويهم إعادة النظر في تقييم الأشياء "سيخرج المرء بنوع من الرعب والريبة بخصوص الأخلاق، بل يتم تشجيعه على أن يدافع ولو مرة واحدة عن أسوأ الأشياء" (33) والمقصود أسواء الأشياء في عرف الأخلاق السائدة التي يثور عليها نيتشه وينأى بنفسه بعيدا عنها لذا فهو – كما يقول - "لا أخلاقي"A.moralist وهي عبارة علينا أن نقف أمامها طويلا. فهو لا أخلاقي بالمعنى المتعارف عليه للأخلاق السائدة، لأنه يتحدث ضدها، خارج عنها، أنه يقف "بمعزل عن الخير والشر"(34) يتساءل عن إمكانية قلب القيم؟ "ألا يمكن قلب كل القيم؟ والخير ألا يكون هو الشر ؟ ألا يحتمل أن يكون كل شئ خطاء؟ (35) أن الخير والشر عبارات فقدت كل معناها وعلينا أن نعيد النظر فيها. فليس العالم أو وقائعه المختلفة خيرة أو شريرة أنه هنا يبدو مثل فتجنشتين يرى أن القيم والفضائل ذاتية، ونحن الذين نخلع عليها معناها. "أن العالم بداهة لا يبدو خيرا ولا شريرا، لا يبدو أنه هو الأفضل أو الأسوأ، وأن مفاهيم "خير" و "شرير" لا معنى لها ألا بالنسبة للإنسان، بل أكثر من ذلك، أنهما ربما لا يكونان مبررين هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار الطريقة التي يتم بها استعمالهما عادة. وسواء كان ذلك قدحا أو تمجيدا فأنه يجب علينا التخلص من هذا التصور للعالم(36) .
إن نيتشه الذي عده البعض فيلسوف الحياة لتأكيده على قيمة الحياة يؤكد لنا على أهمية إعادة النظر في قيمة الحياة ليس فقط من منطلق منطقي بل من خلال الميول الإنسانية، الرغبة، المنفعة، الذاتية" إن قيمة الحياة ترتكز بالنسبة للإنسان العادي على كونه يولي نفسه أهمية أكبر من التي يوليها للناس.(37) فالذاتية أو لنقل الأنانية هي أساس تحديد الأخلاق وترتيب المنافع "الأنانية مقولة أساسية في أخلاق نيتشه وهي أقرب إلى الدفاع عن النفس. فإذا كنا نقبل أخلاقية الدفاع عن النفس فمن الواجب علينا أن نقبل كذلك كل تمظهرات الأنانية – فنحن نفعل الشر كي نضمن بقاءنا وحمايتنا. نسلم بأن الأساءة عن قصد أخلاقية حين يتعلق الأمر بوجودنا أو أمننا"(38) أن التأكيد على المنفعة يتضح لدى نيتشه بحيث يقرب البعض بينه وبين وليم جيمس كما فعل فريدريك ألفاسون F.A Olafson في دراسته "نيتشه كانط والوجودية" حيث يرى أننا يمكن أن نفهم المغزى الحقيقي لأسهام نيتشه في الأخلاق في محتوى نظريته العامة في الحقيقة وتطبيقاتها في مجال القيم. ويرى أنه مثل العديد من البراجماتيين يعتقد أن جميع معارفنا وكل نماذج تجربتنا التصورية تتضمن عنصرا تقيميا ويربط بينه وبين جيمس ففي الوقت الذي يحاول فيه نيتشه إعادة تفسير الفكرة العامة للحقيقة بهذه الروح البرجماتية فأنه يتعرف على فرق أساسي بين تأسيس حقيقة القضايا الفعلية والأفعال الإرادية عن طريق غايتها". (39)
لقد أدرك نيتشه في هذه الفترة بعد تعرفه على أعمال بول ري Paul Ree - الذي يشيد به(40) – أولوية الدراسة النفسية للأخلاق، وضرورة البحث عن أصل الأحاسيس الأخلاقية" وهو ما سنجده أيضا في "جينالوجيا الأخلاق". أن نيتشه يتحول إلى البحث التاريخي، ويفصل في تاريخ الأحاسيس الأخلاقية.(41) وفي فقرة هامة يتناول "ازدواجية ما قبل تاريخ الخير والشر" فللخير والشر تاريخ في روح الأعراق والطبقات المهيمنة؛ الخير ينتمي إلى "الخيرين" إلى جماعة لديها إحساس بالتضامن، لأن كل أفرادها يرتبطون فيما بينهم بروح الثأر، الشرير ينتمي إلى "الأشرار" من ليني العريكة والعاجزين الذين لا يعرفون للتضامن معنى، الخيرون طبقة الأشرار ركام. الخير والشرير مرادفين للنبيل والحقير، للعبد والسيد." (42)
ويتناول المراحل التاريخية الثلاث من حياة الأخلاقية التي سيفيض في تفاصيلها في كتابه "بمعزل عن الخير والشر".(43) وهذا ينقلنا إلى ما قدمه نيتشه في هذا العمل ؛ الذي يؤسس ويمهد الطريق إلى تجاوز الأخلاقية السائدة والنظر إليها بمعزل عما تعارف عليه من أجل تأسيس قيما جديدة، هنا يقلب نيتشه، ويدعو إلى قلب القيم وهذا هو موضوع الفقرة التالية.
ب- يميز نيتشه " فيما وراء الخير والشر" بين ثلاث مراحل في تطور الأخلاق. الأولى، وهي الفترة الأطول في التاريخ البشري، والتي أستنبطت قيمة الفعل من النتائج المترتبة عليه وليس من الفعل في ذاته ويسمي هذه المرحلة ما قبل الأخلاق. ثم تحول إضفاء لا على نتائج الفعل بل على نسبه، نتيجة سيادة القيم الأرستقراطية والإيمان به "النسب"، الأصل descent وذلك في المرحلة الثالثة التي يطلق عليها، المرحلة الأخلاقية نتيجة إدراك "الأنا"، "الذات" ومن هنا علينا إعادة تأكيد الذات، فهي المنوطة بعملية قلب القيم، وتحويل أساسها وذلك ما يطلق عليه نيتشه؛ خارج ، أو ما وراء الأخلاق(44)
إن ما يهدف إليه من تأكيد الذات وتحقيق "إرادة القوة" يظهر في إعادة نظر جذرية للقيم وتحويلها من قيم العامة أو العبيد إلى قيم السادة، ونظرا لسيادة قيم العامة في المجتمعات، وهي الأخلاق السائدة فإن قيم القوة والنبالة والاستعلاء تعد خطرا، ولا أخلاقية، ونيتشه هو الذي يطالب بأخلاق القوة يعد – كما يصف نفسه – لا أخلاقي وهو وصف مضلل للقارئ الذي يتوقف عند المعنى السائد للأخلاق وقد يكون متناقض حيث يصدر عن فيلسوف دارت أعماله جميعها حول الأخلاق. إن معنى اللأخلاقية ليس ضد الأخلاق (السائدة) التي يمكن أن نصف من يتبعها بالأخلاقي ، ومن لا يتبعها – وإن كان يؤمن بها ويخضع لها – باللا أخلاقي بل أن المقصود باللا أخلاقي A-Moralist هو من يقف خارج هذه الأخلاق السائدة العبيد والضعف بمعزل عن الخير والشر المتعارف عليه.
إن ما يرفضه نيتشه في أخلاق عصره والتي ترجع إلى الأفلاطونية وإلى سقراط، والتي دعمتها المسيحية أخلاق العبيد والقطيع، hard animal morality هو أنهاليست الأخلاق بالألف واللام أنها نمط واحد من الأخلاق الإنسانية من الممكن أن يوجد معها إلى جوارها وخلفها أشكال أخلاقية عديدة وهذا ما يبحث عنه نيتشه ويندب نفسه للقيام به وهو إيجاد السوبر أخلاق، التي تقاوم الأخلاق السائدة وترفضها وتتجاوزها(45) وذلك مقابل الديموقراطية الحالية التي هي وريثة المسيحية، وهي صورة من صور تداني الإنسان. يدعو نيتشه السادة الأقوياء المتميزين إلى أن يتجهوا بالأخلاق وجهة جديدة ويعيدوا تقييم القيم.
يرى شاخت أن التسمية "لا أخلاقي" ليست دقيقة تماما حين يصف بها نيتشه نفسه فهي تشير إلى تبسيط وتشويه حقيقة موقفه من هذه القضايا. فمفهوم الأخلاق بالنسبة إليه كان يعني معاني متعددة وهو حين يصف أخلاق أوربا بأنها أخلاق القطيع كان يبين أنها نوع واحد من الأخلاق الإنسانية ومعها وبجوارها العديد من الأنواع الأخرى. لقد كان يبحث في الأشكال التاريخية للأخلاق والمعنى العام للأخلاق وفي الأخلاق باعتبارها قضية الإنسان القادرة على تحقيق إنسانية أمثل(46) لقد كان يؤكد على أنه لا توجد أخلاق مطلقة، وأن الحكم الأخلاقي يعتبروهم وأنه لا توجد حقائق أخلاقية ثابته. والقضية الرئيسية بالنسبة له عدم وجود ظواهر أو وقائع أخلاقية ولكن يوجد فقط تفسير أخلاقي لتلك الظواهر . يؤمن نيتشه بضرورة الأخلاق ودورها لذا عدل عن رأيه وقرر أنه توجد حقائق أخلاقية وأنها تخرج عن أن تكون "كذبة ضارة" و "خداع خطر" وأكسبها شرعيتها وأهميتها في ضوء فلسفته الأنثروبولوجية ونظرية القيمة.(47)
ويرى أن المطالبة بأخلاق واحدة للجميع يعني الأضرار بالإنسان الأعلى تحديدا. أن ثمة تراتبية بين إنسان وإنسان يؤكد عليها نيتشه وبالتالي بين أخلاق وأخلاق (48) يرفض نيتشه أخلاق القطيع ويقصر حق خلق القيم على السادة "خلق القيم هو من حق السادة"(49) وذلك تبعا لنظرية أخلاق السادة والعبيد، التي يعرضها لنا في فقرة طويلة في ما وراء الخير والشر يقول: "أثناء تجوالي بين أنواع الأخلاق التي سادت اليوم على الأرض، أو ما تزال عثرت على سمات معينة أرتبط بعضها ببعض وظهرت بصورة منظمة حتى ظهر لي في النهاية نوعين أساسيان بينهما فارق جوهري هما : أخلاق السادة وأخلاق العبيد فقد ظهر التمييز بين القيم الأخلاقية عن جنس قوي غالب أدرك تميزه عن الجنس المغلوب، أو عن العبيد المغلوبين، يحدد الجنس الأقوى الغالب مفهوم "الخير" فالنبلاء هم من يحددون القيمة، أنهم خالقي القيم، القيم التي تمجد الذات وجوهرها الشعور بالتدفق والامتلاء"(50) وتميز كاترين بارسونز في دراستها نيتشه والتغيير الأخلاقي بين الإصلاح الخلقي والثورة الأخلاقية، الأول وظيفته المحافظة على الأخلاق المتعارف عليها والثاني رفض هذه الأخلاق والتمرد عليها بخلق وإبداع قيم جديدة وأنه، بين مختلف الفلاسفة يقف نيتشه بمفرده باحثا عن التغير الذي يمثل ثورة أخلاقية تنصب على التقاليد الراسخة للأخلاق من أجل إبداع أخلاق جديدة (51) لذا يلجاء نيتشه إلى الجينالوجيا للبحث في منشأ الأحكام الأخلاقية وكيف تحدد معنى "الخير" و"الشر" وهو العمل التأسيسي للقيم عند صاحب إرادة القوة.
ج- يقدم لنا "جينالوجيا الأخلاق" 1887 سيرة حياته أفكاره التي تتعلق بأصل الأحكام الخلقية المسبقة. ويرجعها إلى تلك الفقرات في "إنساني ، إنساني للغاية 1876- 1877 حيث وجدت أول تعبير عنها بينما يعود التفكير فيها إلى فترة أسبق من ذلك. وهذا الامتداد الزمني والتفكير الدائم يوضح أنها تصدر من إرادة أساسية للمعرفة. صدر عنها انشغاله المبكر والذي يدور حول سؤال : ما هو الأصل الذي علينا أن ننسب له أفكارنا حول الخير والشر؟ وقد جعله موقفه النقدي من كانط الذي يحضر حضورا سلبيا دائما في تفكير نيتشه الأخلاقي(52) الداعي إلى اللاأخلاقية –يميز بين الحكم اللاهوتي المسبق والحكم الأخلاقي المسبق، أي أن يتوقف عن البحث عن أصل الشر في ما وراء هذا العالم. ألا أن تعمقه في الدراسة التاريخية الفيلولوجية واهتمامه الكبير بالمسائل النفسية حول هذه الإشكالية إلى : في أية شروط عمد الإنسان إلى إيجاد مقياسي الخير والشر بهدف استعماله في حياته، وما هي قيمة هذا المقياسين؟ وهل نتج عنهما تطور أم عرقلة تطور البشرية؟ هل هي تعبير عن مظاهر البؤس والفقر الروحي والانحطاط؟ أم عن السعادة والقوة والثقة بالمستقبل والحياة؟ وظلت كما يخبرنا نيتشه الأجوبة على هذه الأسئلة تولد أسئلة جديدة، تزداد وتتسع حتى يتحدد تفكيره وتتضح معالم فلسفته في الأخلاق والقيم.(53)
لقد كان كتاب بول ري Poul Ree "في أصل المشاعر الأخلاقية" الذي أشاد به نيتشه هذه الفترة باعجاب في "إنساني، إنساني للغاية" في مواضع عديدة هو الذي حرك بعنف تفكيره ويرجعنا إلى ما كتبه من شذرات في كتابه السابق حول هذه القضايا مثل : "حول الأصل المزدوج للخير والشر" أي اختلاف هذين المفهومين وفقا لنشأتهما عن الأسياد أو عن العبيد. الشذرة 45، قيمة الأخلاق الزهدية وأصلها، الشذرة 136 وما يعادلها ثم حول أخلاقية العادات، الشذرة 96،99 والمجلد الثاني الشذرة 89،92(54)
والحقيقة أن الباحث المتعمق لفلسفة نيتشه الأخلاقية يدرك أن قضية نيتشه وتفكيره يتجاوز ما طرحه من تساؤلات وافتراضات حول أصل الأخلاق لقد كان انشغاله وتفكيره يتعلق "بقيمة الأخلاق"
إن نيتشه هنا يفكر من خلال وضد شوبنهور، خاصة فيما يتعلق "بقيمة الشفقة" التي رأى فيها نيتشه، الإرادة التي تنقلب على الحياة، وهي ضرب من البوذية الجديدة التي تتجه نحو العدمية ويقوده هذا التفكير الذي يمتزج فيه الشك والخشية إلى إعادة النظر في الأخلاق السائدة وتجاوزها. يقول: "أننا في حاجة إلى نقد القيم الأخلاقية، وإعادة طرح قيمة هذه القيم للبحث لمعرفة الشروط التي ولدتها ونشأت فيها وتشوهت"(55) لقد كان نيتشه يسعى، من خلال، ما طرحه من مشكلات حول نظرة بول ري "في أصل المشاعر الأخلاقية" إلى تعبيد اتجاه نحو تاريخ حقيقي للأخلاق يحل شفرة النص الهيروغليفي الطويل الذي يتحدث عن ماضي الأخلاق البشرية . يستدعي نيتشه معرفته الفيلولوجية لتحديد معنى "خير" في اللغات المختلفة. فهي تنتج عن التميز والنبل وتتولد عنها فهي تعني المتميز من حيث خلقه. أنها ترتبط بالأرستقراطية، يرجع نيتشه لفظة gut خير الألمانية ويقارنها ببعض الكلمات الشبيهة بها إلى der göttliche ، الإلهي أو الفرد الذي ينسب (من نسب) الآلهة، ومرادفه (Goth) اسم لفئة من النبلاء. ويقترح نيتشه في نهاية دراسته الخير والشر في "جينالوجيا الأخلاق" وضع الأسس والشروط التمهيدية من أجل تحديد قيمة القيم، بدراسة تطور المفاهيم الأخلاقية عن طريق الإفادة من جهود الفيلولوجيا والطب وعلم النفس. "وعلى كل هذه العلوم من الأن أن تبدأ بتمهيد الظروف التي تخدم الفيلسوف، إن تفهم هذه المهمة بمعنى مشكلة القيمة، أي تراتبية القيم (56) فبالنسبة إلى نيتشه ليس هناك في العالم بأسره قضية تستحق أن يوليها المرء اهتمامه الجدي بقدر ما تستحق هذه القضية(57)
ينتقد نيتشه في المقالة الأولى من "الجينالوجيا" الخير والشر اتجاه النفسانيون الإنجليز في البحث عن أصل الأخلاق بسبب أفتقادهم الحس التاريخي ، وإذا كان هؤلاء يرون أن الخير ينتج عن الحكم على الفعل غير الأناني من قبل من يعود عليه هذا الفعل وينتفعون به، ثم نسي هذا الأصل وأصبح يطلق الحكم"خير" على الأفعال الإيثارية غير الأنانية. فأن نيتشه يرى مقابل ذلك أن الحكم على فعل بأنه خير – لم يصدر عن هؤلاء الذين وقع عليهم فعل الخير، المتلقين له، بل عن من صدر عنهم؛ وهم البشر الأقوياء ذوى المنزلة السامية والارقى وهم أنفسهم الذين اعتبروا ذواتهم أخياراً وحكموا على أفعالهم بأنها خيرة. فأسسوا بذلك تقدير هذه الأفعال وأعطوا لأنفسهم حق خلق القيم وتحديدها، انطلاقا من هذا الشعور بامتيازهم عن الآخرين. هذا الشعور – كما يؤكد نيتشه – بالتفوق والاختلاف هو أصل التميز بين الخير والشر(58)
هنا علينا أن نتوقف لنشير إلى أن الأحكام الأخلاقية والتقيمات المختلفة وتسميات الخير والشر ترجع إلى إطلاق أحكام حول الأفعال التي تسلكها الطبقات المهيمنة، فهي ترجع إلى اللغة، واللغة عند نيتشه في أصلها فعل من أفعال السلطة صادر عمن لهم الغلبة والسيطرة. "فتسمية الشئ هي تملكه" فإذا كان هذا صحيحا فإن التضاد بين الأناني والمنزه في الحكم على الأفعال يظهر في فترات تداني التقيمات الأرستقراطية.حيث تسود احكام العامة وتسيطر كما في أوربا الحالية التي تساوي بين أخلاقي وغير أناني. ومن ثم يظهر التقابل بين أخلاق القوة وأخلاق الضعف، أخلاق السادة وأخلاق العبيدن أخلاق الأرستقراطية المقاتلة وأخلاق الكهنة والتقويم سجال بينهما. تقوم الأحكام القيمة لدى الأرستقراطية المقاتلة اعتمادا على البنية البدنية والصحة الموفورة والحيوية الناتجة عن الاستعداد للحرب، بينما تقوم التقييمات عند الكهنة على شروط أساسية مختلفة، تدور حول كراهية الحرب بسبب العجز، الذي يولد لديهم الحقد(59) ويمثل هؤلاء اليهود- الذي يقتضي موقف نيتشه منهم دراسة خاصة- هذا الشعب الكهنوي الذي ظل في صراع دائم مع أعدائه حتى تم له اجراء تغيير جذري على جميع القيم، يقول نيتشه: لا يقارن ما بذل من جهود ضد النبلاء، الأقوياء، السادة بما فعله اليهود، أنهم من تجرؤا بطريقة منطقية على قلب معادلة القيم الأرستقراطية رأسا على عقب (خير، نبيل، قوي، جميل، سعيد، محبوب إلى الله ) واتطلاقا مما يحملونه من كراهية الحقد والعجز، أكدوا هذا القلب للقيم، "أن المساكين وهم الطيبون والفقراء والعجزة والصغار والمحتاجون هم وحدهم أصحاب التقوى وبالمقابل فإن النبلاء الأقوياء الطغاة الجشعين سيظلون إلى الأبد منبوذين ملعونين(60)
إن نيتشه يؤكد على القول بأن تمرد العبيد في الأخلاق قد بدأ مع اليهود، "بينما نجد أن كل أخلاق أرستقراطية تولد من تأكيد لذاتها نجد أن أخلاق العبيد توجه رفضا لكل ما لا يشكل جزء من ذاتها، لما هو مختلف عنها "لا أنا " ما هذا الرفض؟ ، هذا القلب للتقييم ينتمي في جوهره إلى الحقد(61) هنا إذن أصل مزدوج، أصلين لمفهوم الخير، حسب نشأتهم الأول لدى النبلاء، الأرستقراطية، المقاتلة، والثاني لدى الكهنة الذين قلبوا معناه، وبدأ ذلك بدافع العجز والحقد لدى اليهود الذين غيروا دلالة الفضائل وحولوا معنى القيم يقول في "ما وراء الخير والشر" إن اليهود الشعب الذي "ولد للعبودية" حققوا معجزة قلب القيم reversal of values التي قدمت خطر جديد للحياة على الأرض. لقد أذاب melted أنبياؤهم أفكار "غني" ، "شرير" "عنيف" و"حسي" إلى فكرة واحدة وحول "العالم" إلى معنى العارshameful وفي عملية قلب القيم هذه – في جانب منها استعمل لفظ فقير بمعنى مقدس holy وصديق. باليهود يبدأ تمرد العبيد في الأخلاق(62) . وذلك على النحو الذي يذكره نيتشه : "فالعجز الذي لا يلجأ إلى الثأر يتحول عن طريق الكذب إلى صلاح وخيرية، والجبن إلى "تواضع" والأنقياد لمن يبغضون "طاعة" والرضى "صبرا" بل فضل" "العجز عن الأنتقام" يتحول إلى رغبة عنه بل إلى صفح عن الإساءة(63)
لقد ظهر التعارض بين قيم : الخير والشر وتحدد في هذا التقابل بين روما ياهودا Rome aginst Judaea وياهودا ضد روما. كان هناك شعور أن في اليهودي ما هو مضاد لطبيعة روما ويقع منها على طرف نقيض، فهو كائن تستبد به الكراهية للجنس البشري(64) لقد خص نيتشه روما بالقوة لمعرفة أي أخلاق تسود الأن لقد أنتصرت أخلاق القوة حتى ظهر الحقد اليهودي وإن عادت قيم السيادة والقوة والنبل في عصر النهضة، لكن سرعان ما انتصرت ياهودا من جديد بفضل حركة الإصلاح ومع الثورة الفرنسية حين تهاوت أخر معاقل السادة النبلاء. لقد كان "جينالوجيا الأخلاق" متجها نيتشاويا قدمه مقابل الميتافيزيقا للبحث عن الأحكام المسبقة في ميدان الأخلاق يقول في الفقرة السادسة من تمهيده للكتاب "أننا في حاجة إلى نقد القيم الأخلاقية، ولذا فعلينا أولا أن نضع قيمة القيم موضع سؤال أن نعرف شروط نشأتها والظروف التي ساعدت على ذلك(65)، ويظهر فيه الدراسة النفسية للأخلاق التي ما فتئ نيتشه يؤكد عليها ، مما دفع تلاميذ فرويد أن يتخذوا من التماثل والشبه بين فرويد ونيتشه موضوعا لأحد مؤتمراتهم أعتمادا على أطروحات جينالوجيا الأخلاق(66)
د- وفي مقدمة أفول الأصنام يشير نيتشه إلى إنجاز مهمته ويحدد لنا تاريخ 30 سبتمبر 1888 باعتباره اليوم الأول الذي فيه الكتاب الأول من قلب جميع القيم(67) ويؤكد على أن الحياة هي أساس الأخلاق ومصدر القيم، أخلاق القوة بالطبع، بينما الأخلاق السائدة، أخلاق العبيد، فهي طبيعة مصادرة ويرى أت "مهاجمة النزوات تعني مهاجمة الحياة"(68) ويضع ذلك فيما يشبه القاعدة الذهبية، البديهية وهي "أن كل أخلاق سليمة تسودها غريزة من غرائز الحياة"(69) وهذا يجعلنا نستدعي كل ما قاله أفلاطون عن الفضائل باعتباره مضادا لفهم نيتشه، لذا فهو – أي صاحب إرادة القوة أن أخلاق سلبية يقول تحت عنوان "قضية سقراط" أن كل أخلاقية الفلاسفة الإغريق انطلاقا من أفلاطون محددة بدوافع مرضية(70) وهذا ينطبق أيضا على أخلاق المسيحية التي هي من وجهة نظره امتداد ووريثة للأخلاق الأفلاطونية، بل كل أخلاق الكمال بما فيها المسيحية تقوم على سوء فهم… أن يرغم المرء على مقاومة غرائزه، تلك صيغة الانحطاط. فما دامت الحياة تسلك منحنى تصاعديا، فالسعادة تساوي الغريزة،(71)" "إن المسيحية عنده-وهي امتداد لليهود قلب لكل القيم الأرية، انتصار لقيم المنبوذين، بشرى يبشر بها المتواضعين والفقراء، ثورة التعساء والمشبوهين، والمخفقين العامة ضد الـ"نسب" أنها انتقام المنبوذين الأبدي مقدما- كدين المحبة" (72)
وقبل أن نسترسل في تحديد مفهوم القيم والأخلاق ومحاولة نيتشه لقلب القيم نتوقف عند دراسة فيليبا فوت Philippa Foot "نيتشه إعادة تقييم القيم" التي تناقش موقفه من الأخلاق المسيحية وتنتقد هذا الموقف حيث رفض نيتشه فضيلة التواضع والتعاطف وتفضيله حب الذات على الاهتمام بالآخرين(73) إن أيجاد مقياس للأخلاق ورؤية القيم هي ما يهدف إليه نيتشه وهذا ما يستدعي وجود مراقب محايد خارج نطاق أنواع الأخلاق المتعارف عليها، أن الأخلاق كما فهمت حتى الأن وكما قدمها شوبنهور هي "نفي إرادة الحياة" لذا يطالبنا نيتشه بتأكيده الحياة، ليس أنطلاقا من داخلها وأنما من عبر رؤية عميقة لتاريخ الأحاسيس الأخلاقية ونظرة من خارج أنماط الأخلاق المتعارف عليها "يلزم أن يكون المرء خارج الحياة وفضلا عن ذلك، أن يفهمها أكثر من أي كان، أكثر من الكثيرين من أولئك الذين عاشوها، لكي يكون له الحق فقط في أن يعرض لقضية قيمة الحياة: أننا هنا بإن الحياة كمصدر للقيم والتقييم، هي التي تقيم عندما نتحدث عن القيم فأنما نتحدث بوحي نتحدث في وجهة نظر الحياة نفسها : "أن الحياة هي التي تقوم" من خلالنا في كل مرة نضع فيها قيما(74) أن الأخلاق في كونها تؤسس في المطلق وليس بالقياس إلى الحياة أو مراعاة للحياة هي عند نيتشه خطأ جوهري(75) ويوضح لنا ذلك بقوله أن هذه "الطبيعة المضادة"، التي هي الأخلاق، ليست في حد ذاتها ألا حكم قيمة عن الحياة. ولكن عن أي حياة؟ عن أي نوع من الحياة؟ الجواب – وقد سبق أن قدمه لنا – الحياة الضعيفة المملة المذمومة(76)
رابعا : القيم وإرادة القوة
ربما يعد كتاب "إرادة القوة" Der will zur macht الذي يحمل عنوانا فرعيا هو محاولة في إعادة تقييم كل القيم، التعبير الكامل والأخير لفلسفة نيتشه ككل. والعمل كما نعلم نشر بعد وفاته عام 1901 في الأعمال الكاملة، وهو تجميع قامت به إليزابيث فويرستر نيتشه،(77) يرى فيه هيدجر متابعة نيتشه ومساءلته للفلسفة الغربية"أنه يستدعي الفكر الذي عاد في فلسفته الميتافيزيقية إلى بداية الفكر الغربي، ويضع نفسه في مقدمة معارضة العدمية "فيلسوف – فنان" وأن الرؤية التي يقدمها ليست "جمالية ألا في ظاهرها" و "ميتافيزقية" في أعمق مقصدها.(78) وهذه الرؤية الميتافزيقية هي محاولة إعادة تقييم كل القيم. وبالتالي فهو أي الكتاب يقدم لنا الصورة النهائية للقيم عند نيتشه أعتمده كل من حاول تقديم فلسفة نيتشه سواء بشكل موجزمثل ماجل Magill (79) أو بشكل موسع كما نجد لدى كوفمان الذي اهتم اهتماما كبيرا بفلسفة نيتشه لقد ترجم له أعمال متعددة وكتب عنه كتابه الضخم "نيتشه فيلسوفا وسيكولوجيا وضد المسيح" (80) حتى في كتبه التي لا تدور حول فيلسوف إرادة القوة(81)* وكذلك بدوي في عرضه لفلسفة نيتشه
وبنية العمل رباعية، يتكون من أربعة كتب داخل كل منها أقسام الكتاب الأول العدمية Nihilism ويتناول العدمية وتاريخ العدمية الأوربية. والثاني نقد القيم العليا الحالية ويتكون من أقسام ثلاثة هي : نقد الدين، نقد الأخلاق Morality نقد الفلسفة، ويقدم الكتاب الثالث مبادئ التقييم الجديد. في مجالات أربعة : إرادة القوة كمعرفة، إرادة القوة في الطبيعة، إرادة القوة كمجتمع وكفرد وإرادة القوة باعتبارها فناً.والكتاب الرابع، التأديب والتهذيب ويتكون من أقسام ثلاثة هي : نظام التراتب، وديونيسوس، والعود الأبدي،
وهو يؤكد فيه إن الوجود ليس إلا الحياة، وليست الحياة إلا إرادة، وليست الإرادة إلا إرادة القوة، إن الحياة لا تستطيع وفق نيتشه أن تحيا ألا على حساب حياة أخرى، لأن الحياة هي النمو، وهي الرغبة في الأقتناء، والزيادة فيه، وما دامت كذلك فهي كما يقول بدوي إرادة سيطرة واستيلاء وتملك وتسلط وخضوع (82) أني توجهت فلن تجد غير إرادة القوة فهي الدافع الحقيقي في النفس، وهي العامل الجوهري في الجماعة والدولة(83) وإرادة القوة فيما يقول بدوي هي سر الوجود، فلنبن على أساسها إذن مستقبل الوجود(84) وهذا ما يتكرر عند صلاح قنصوة حيث التقويم هو الوجود، والحياة والوجود شئ واحد لأن كليهما تقويم، الحياة تقويم وإرادة ولكنها إرادة قوة، لأن الحياة لا تستطيع أن تبقى ألا على حساب حياة أخرى فالحياة هي النمو، وهي الرغبة في التملك، فالحياة إذن وهذا ما يتكرر عند صلاح قنصوة حيث التقويم هو الوجود، والحياة والوجود شئ واحد لأن كليهما تقويم، الحياة تقويم وإرادة ولكنها إرادة قوة، لأن الحياة لا تستطيع أن تبقى ألا على حساب حياة أخرى فالحياة هي النمو، وهي الرغبة في التملك، فالحياة إذن رادة قوة أي إرادة تسلط واستيلاء، وتملك وإخضاع(85)
وإرادة القوة هي حقيقة فلسفة نيتشه، أن مصدر قلب القيم كما يؤكد إميل بيرييه ليس التأمل والتحليل بل محض إثبات القوة – وهي محض وجود – أن يكون المرء ملزما بتبرير ذاته،(86) أنها قوة الحياة كما يوضح ويصحح برييه الفهم الخاطئ لها "فليس صحيحا أن إرادة القوة لدى نيتشه عنوان للقوة الوحشية والمدمرة، فتأملات نيتشه الأخيرة كشفت له على ما يبدو، على العكس من ذلك، أن غزارة الحياة تتجلى في اختيارن في تنظيم دقيق للعناصر التي تسيطر عليها(87) تتعدد تأويلات الأحكام الأخلاقية وتبقى في الأخير إرادة القوة، لا تشكل إرادة القوة أخذ بل عطاء، اشتهاء بل إبداع وتأكيد "إرادة القوة، إرادة ( النعم، والا ) وشروط إمكانية الحياة، هي القيم"(88) … إن القيم هي شروط إمكانية الحياة لقد بقى نيتشه يعين الوجود في كليته، ويفهمه من خلال "إرادة القوة" كما حاول بدوره – فيما يقول ناقده- صياغة تصورات أخرى عن الحياة ، وعن العالم، وعن الحرية، وعن الحقيقة(89)
ليس صحيحا إذن ما يزعمه بعض الباحثين من أن نيتشه لم يقدم في الواقع أية أخلاق إيجابية أو بالأحرى إن أقواله في هذا المجال كانت متباينة بقدر ما هي متناقضة ذلك لأن الحقيقة الأخلاقية كما يضيف هؤلاء أنفسهم تكمن في تجاوز مستمر للذات(90) ، وهذا ما دفع ريمون رويه إلى القول "أن ما نتحدث عنه في صدد نيتشه يبدو أنه خطأ كله. ذلك أن نيتشه يؤمن على نحو ما – بالقيم فيما وراء الإنسان الأعلى. أنه يتكلم غالبا عن "إرادة القوة" كم لو أن الأمر يتناول ذروة الخير الميتافزيقي، وأن إنسانه الأرستقراطي ليضحى بذاته في سبيل القيم العليا، وعلى هذا فإن نيتشه يقرب قربا شديدا – عند رويه – من نزعة الواقعية القيمية(91) وتظهر متابعة كتابات الباحثين في القيم، أنها نمت وازدهرت بعد نيتشه ولعلها لم تكن لتوجد لولا وجوده كما يرى عادل العوا، الذي يحدد لنا النقاط الرئيسية في فلسفة نيتشه في ثلاث مسائل رئيسية :
أولا : إيمانه بتقدم مفهوم القيمة على سائر المفاهيم، وقد وجد أن الفكر يعرب عن هذا المفهوم بصراع جائر بين القيمة وبين الحقيقة، وأن هذا الصراع يحسم بانتصار القيمة وتفوقها.
ثانيا : إيمانه بأن الإرادة أصل القيمة ، وأن الإرادة هي القدرة على السيطرة
ثالثا : ورب معترض يرى أن فردية القيمة يحرم القيم من كل معيار يرى أن ذات القيمة واحدة بالنسبة إلى البشر أجمعين بينما يرى أن الإرادة المتميزة بقيمة أعظم هي التي تتصف بأنها إرادة على وجه أعظم من أتصاف سواها(92)
وعلى هذا يمكنا القول أن مهمة نيتشه مزدوجة فهو لا يستطيع في سعيه لهدم القيم ألا أفتراض أسس لقيم جديدة ونستطيع أن نستشهد بتعليق لا فيل على مذهب نيتشه الذي يقول فيه الحق أن نفي نيتشه القيم الذائعة لا يستقيم ألا بتوافر شروط الاعتراف بوجود قيم صحيحة(93)
خامسا: خلاصة
ويقتضي الأمر في ختام تناول أفكار نيتشه في القيم وتحليل كتاباته في الأخلاق وتأويل الباحثين لفلسفته منا أن نقف وقفة نتشوية مع نيتشه، الذي لم يفكر قط كما يقول ألبير كامي" ألا تبعا لرؤية دمار كل مقبل – لعلنا نشعر بها – والعبارة الأخيرة من عندي. وذلك لا ليشيد بها، بل ليتجنبها ويحولها إلى نهضة وانبعاث"(94) والأمر لا يتعلق كما يتبادر للذهن لأول وهلة أن نكون مع أو ضد نيتشه، فقد نصحنا هو ألا نتبع خطواته، بل يتعلق الأمر بالدور الذي نهض به في النظر للميتافزيقا الغربية بشكل عام في إعادة طرحه لمشكلة حقيقة القيمة أكثر من أهتمامه بقيمة الحقيقة. لقد ربط فيما يقول جيل دولوز بين الجينالوجيا والنقد الكلي وإبداع القيم(95) ونهض المعاصرين من مؤيديه ومن سار على دربه ومن منتقديه أصحاب الدروب المختلفة بتأويل جينالوجياه (96)
إن الجينالوجيا ليست تاريخا واقعيا يفصل عالم القيم عن الواقع أنما هي تحاول أن تربط معاني الواقع بالمنظورات أو التطلعات التي تعطيها قيمة وهي تدرك تلك التطلعات من حيث هي إرادات قوة متفاضلة فيما يقول بنعبد العالي في أسس الفكر المعاصر(97) ونستطيع على ضوء تحليل نيتشه لنشأة الأخلاق وأصل القيم والتمييز بين أخلاق السادة وأخلاق العبيد، التي أرجع الأخيرة منها إلى اليهود وما تميزوا به من حقد وكراهية أدى بهم إلى قلب القيم والفضائل، أن نتوقف أمام تأكيده وأشادته بأخلاق السادة أخلاق القوة التي تعيد تقييم القيم من جديد يتحرى التاريخ وهذا يقتضي منا جهدا ما أصعبه من جهد حيث لن تتأتى جينالوجيا القيم والأخلاق والزهد والمعرفة فيما يقول فوكو عن طريق البحث في الأصل والأهمال لكل مراحل التاريخ ، بل من باب الوقوف الطويل عند البدايات ، البدايات بكل تفصيلها واتفاقاتها والأهتمام بقبحها وسخفها وأنتظار بزوغ طلعتها من غير أقنعة(98) فلا توجد كما يخبرنا نيتشه ظواهر أخلاقية في ذاتها، بل تفسيرا أخلاقي للظواهر. لقد كان نيتشه الذي ينعت نفسه أول الأخلاقيين ، الأخلاقي الأول. في تأسيسه للبحث في القيم، وجعلها المشكلة الفلسفية الأساسية
الجهل يدعو إلى التجربة . الجهل هو يقظة حالمة ، واليقظة الحالمة المتميزة بالفضول هي قوة .
فيكتور هيجو ................ رواية " عمال البحر "
منقول