الدراسة 02 المنزع العقلي كتاب الإمتاع و المؤانسة :
المنزع العقلي كتاب الإمتاع و المؤانسة :
إن الحديث عنالمنزع العقلي في كتاب الإمتاع و المؤانسة يستوجب إعادة النظر في موضوعات الكتاب وفيما دار بين أبي حيّان و الوزير من مسامرات و أحاديث و تساؤلات وتعليقات.
غير أننا نحتاجإلى تحديد مفهوم العقل لدى أبي حيّان خاصّة و أنّ الرجل قريب في أدبه من الفلسفة لاسيما و انه " أديب الفلاسفة و فيلسوف الأدباء " .
و لئن اتّجهالتّوحيدي في كتابه وجهة أدبية فنية فإنّ الكتاب لا يخلو من عمق التفكير الدال علىامتلاك صاحبه قدرة عقلية فائقة جعلته يحوّل متعة السّمر إلى مواقف فكرية و إفرازاتعقلية ثابتة و دقيقة و لربّما احتاج دارس هذا الموضوع إلى مراجعة مؤلفات أخرى لأبيحيّان مثل : " الهوامل و الشوامل" و "البصائر و الذخائر " , يظفر بفهم متكامل لمدلولالعقل لدى أبي حيّان .
إن دراسة مؤلفاتالتوحيدي تبين أن العقل في أدبه نوعان:
1 - عقل مفكّر فيمشاغل الخاصة الفكرية و الفلسفية و اللغوية و الأدبية و المساهمة في تدارس القضاياالثقافية العامة المطروحة في الأوساط الفكرية في عصره.
2- عقل ناقد متفحصلحياة الناس بمختلف وجوهها السياسية و الاجتماعية و العقائدية...و هو عقل يحللالموجود و يشير إلى مواضع الخلل مقترحا أوجه إصلاحه.
بهذا يكون العقلفي الإمتاع و المؤانسة ضربان : عقل مفكّر و منظّر وعقل ناقد مصلح .
i-منزلة العقلعند التوحيدي:
يعتبر التوحيديأن للعقل منزلة متميزة متفرّدة و ذلك من خلال القرائنالتالية:
1-العقل بما هوهبة إلهية : يرى التوحيدي أن العقل هبة ربانية و قوّة تميّز الإنسان عن سائرالمخلوقات. يقول:" وهب الإنسان الفطرة, و أعين بالفكرة و رفد بالعقل..."و يقول أيضا "العقل قوة إلهية و هو خليفة الله "
2- العقل بما هوأساس التفاضل بين الناس : اعتبر التوحيدي أن الناس لا يتفاضلون بالمال أو الجاه أوبالانتماء العرقي و إنما بالعقل لا غير. يقول :"فهو الذي يتفاضل به المتفاضلون والمدار عليه ".
3- العقل بما هوأساس الغنى الحقيقي : يقرر التوحيدي أن الغنى الحقيقي هو الغنى العقلي و أن الفقرالحقيقي هو الفقر من العقل و العلم . يقول :" من حرمه فهو أنقص من كلفقير".
4-العقل لما هومصدر الحقيقة : التوحيدي أن الحكمة و العلم و الحقيقة مصدرها العقل لا غير . يقول:" العقل ينبوع العلم" و يقول :" صواب بديهة الفكرة من سلامة العقل " و يقول :" من قلّنصيبه من العقل كثر نصيبه من الحمق ".
5- العقل بما هوأفضل من المال : يؤكد التوحيدي أن العلم أفضل من المال و أن جوهر التفضيل للعلم علىالمال أرجعه إلى أفضليّة النفس العاقلة على النفس الشّهويّة يقول :" حظّ الإنسان منالمال إنما هو من قبيل النّفس الشّهويّة....و حظّه من العلم إنما هو من قبيل النفسالعاقلة".
و ينتهيالتوحيدي إلى اعتبار أنّ ضياع المال يورث مالكه الضياع و الحسرة بينما صاحب العلملا خشية عليه حيث يقول :" لا ترى عالما سرق علمه و ترك فقيرا.. و قد رأيت جماعةسرقت أموالهم و نهبت و بقي أصحابها محتاجين لا حيلة لهم ".
ii مظاهر انعكاس العقل في الإمتاع والمؤانسة :
1 مظاهر المنزع العقلي في القضاياالسياسية و الاجتماعية و الثقافية و الدينية :
في القضاياالسياسية : تصوير التوحيدي لفساد الحكم و الحاشية و لرداءة الوزراء إضافة إلى رسم ملامحالعلاقة بين الرّاعي و الرعية ...
ب- مثال في فسادالرّاعي : يقولالتوحيدي ّ انهمكوا في القصف و العزف و أعرضوا عن المصالح الدّينية و الخيراتالسياسية "
ت - مثال في فسادالحاشية :يقول :" ومنابع الفساد و منابت التّخليط كلّها من الحاشية التي لا تعرف نظام الدّولة و لااستقامة المملكة ".
ث - مثال في رداءةالوزراء : يقولمتحدثا عن الوزير ابن عبّاد :" لا يرجع إلى الرقة و الرأفة و الرحمة , و النّاسكلّهم محجمون عنه لجرأته و سلاطته و اقتداره و بسطته , شديد العقاب طفيف الثّواب ".
ج- دعوته الساسة إلى الاستنارة بآراءالعقلاء و مراقبة الحاشية و الاقتصاد في الشهوات و النّزوات و النّظر في أمورالرّعية و رفع مظالم الحاشية عنها . يقول التوحيدي موجّها الكلام إلى ابن سعدان :" و آخر ما أقول أيها الوزير : مر بالصدقات فإنها مجلبة السّلامات و الكرامات و مدفعةللمكاره و الآفات , و اهجر الشّراب و أدم النظر في المصحف و افزع إلى الله فيالاستخارة و الثقات بالاستشارة ".
ح - دعوة السّاسة إلى اصطفاء حاشية نصوحةقادرة على توجيههم نحو الحلول السّليمة . يقول مخاطبا ابن سعدان :" لا تبخل علىنفسك برأي غيرك ....فان الرّأي كالدّرة التي ربّما وجدت في الطّريق والمزبلة"
خ - دعوة السّاسة إلى النّظر في شؤونالرّعية و تخفيف المحن و الشقاء و الفقر عنها لانّ تعمق الفاقة يولّد الثورة والتمرّد.
د - دعوة السّاسة إلى مراقبة الحاشيةلانّ التوحيدي يراها أصل الفساد و البلاء و المحن لأنّهم "قوم همّهم أن يأكلوارغيفا و يشربوا قدحا, لا هم ممّن يقتبس من علمهم و لا هم يتكلّفون له نصحا "
القضايا الاجتماعية : إنّ متابعة أبي حيّانللظّاهرة الاجتماعية ليست مجرد وصف أو نقل لما يدور في الأوساط الاجتماعية أو تصويرلحياة الناس كما شاهدها و عايش أوضاعها , و إنما هي متابعة واعية تحاول فهم الظّاهرةفي مختلف مكوّناتها تحديدا لعواملها و انعكاساتها على العامّة و الخاصّة ,إنّه فهممتبصّر لا يكتفي بالمعاينة بل يسعى إلى تتبع المعطيات تتبعا عميقا , و بهذا تسنّىلأبي حيّان أن يكون شاهدا واعيا معاينا مدركا لأسرار ما شاهدته حضرته و بذلك كانتأجوبته على أسئلة الوزير دقيقة وعميقة.
و يتسم وصفالتوحيدي لمجتمعه بإتباع منهجية مقنعة تدّل على أنه تمكن من رصد جميع المعطيات التييحتاجها تحليله.
لذلك كان حديثهشافيا رسم من خلاله الحالة الاجتماعية , فقد تعّرض التوحيدي إلى ما تعانيه العّامةمن فقر و خصاصة بالإضافة إلى ظاهرة التفاوت الطبقي المجحف التي أحدثت خللا فيالعلاقات الاجتماعية ممّا ولّد تناحرا بين الأجناس ( ظاهرة الشعوبية ).
و هذه الأوضاع أدّت إلى عدّة ثورات و انتفاضات احتجاجا على سياسةالرّاعي و ما نتج عنها من رداءة في الواقع الاجتماعي.
يقول متحدّثا عنظاهرة الفقر" إنها تشكو غلاء القوت و عوز الطعام و تعذّر الكسب و غلبة الفقرو تهتك صاحب العيال..." .
و يعلّق علىرداءة التجّارقائل ا:" أما أصحابالأسواق فإنّا لا نعدم من أحد منهم خلقادقيقا و دينا رقيقا و حرصا مسرفا و دناءة معلومة ...قد تعاطوا المنكر حتى عرف وتناكروا المعروف حتى نسي ."
و يشير إلىمسألة رداءة العلاقات الاجتماعيةقائلا :" أرى واحدا في فتل حبل و آخر فيحفر بئر و آخر في نصب فخّ و آخر في دسّ حيلة و آخر في تقبيح حسن و آخر في شحذ حديدو آخر في تمزيق عرض و آخر في اختلاق كذب ..." و هذا ما كان سببا فيانهيار صرحالمجتمع . و يقول " سفكت الدّماء و استبيح الحريم و شنّت الغارات و خرّبتالدّيارات و فشا الكذب و المحال و أصبح طالب الحق حيران و محبّ السلامة مقصودا بكلّلسان.."
رسم الأوضاعالثقافية:
لم تكن الحياة الثقافية بمعزل عن تناقضاتالمجتمع و محاور الصّراع و أمراض السّلطة . و إذا كان للمجالس الثقافية و الفكريةالتي أقامها الوزراء و الأعيان فائدة في تنشيط الحركة الثقافية إلاّ أنّ المثقف فيمثل هذه المجالس يكو ن مسلوبا من حرّية الرّأي و التّفكير المغاير لأهداف صاحب المجلس .
و يعترف التّوحيدي بمصادرة الفكر و تبعية الأديب في عصر كان القلم فيهأداة للتكسّب و البيع في سوق الكساد . و يقول :" إنّ العاجلة محبوبة و الرّفاهيةمرغوبة و المكانة عند الوزراء مطلوبة و الدنيا خضرة حلوة , و من التهب طعمه ظهرعجزه و العزلة محمودة إلا أنها محتاجة إلى الكفاية".
و قد حدّدالتوحيدي طبقات المثقفين و حصرها في العلماء و الأدباء و المتكلمين و القضاة والصّوفية . و قد ندّد بالفلاسفة الذين احتكروا المعرفة و استخدموها للمكاسب الماديةو يورد رأي ابن يعيش اليهودي الذي يشكو من الفلاسفة قائلا:" بأنهم صدّوا عن الطريقو طرحوا الشّوك فيه , و اتخذوا من نشر الحكمة فخّا للمثالية "
إلاّ أنّ ذلك لم يثن التوحيدي عن الإشارة إلى الحركة الثقافية التيازدهرت في عصره و التي تجسّدها مجالس المناظرات و المحاورات بين المذاهب إضافة إلىالمشاغل الفكرية و الفلسفية والكلامية و البلاغية و الفقهية والنحوية.
- مثال فيالمشاغل الأدبية: ( المقارنة بين النثر و النّظم – الموازنة البحتري و أبي تمام) يقول ابن سعدان " حدّثني في اعتقادك في أبي تمّام و البحتري " (
-المشاغل الفكرية (قضية الجبر و الاختيار / الحق و الباطل / النفس والجسد.. (
-المجالس والمناظرات ( المناظرة بين ابن يونس القناني و أبي سعيد السيرافي (
رسمالواقع الديني و العقادي:
سأل ابن سعدان أباحيّان عن سبب اختلاف المذاهب و تباينها بقوله :" من أين دخلت الآفة على أصحابالمذاهب حتى افترقوا هذا الافتراق و تباينوا هذا التباين , و خرجوا إلى التكفير والتّفسيق و إباحة الدّم و المال .." فكان الجواب " إنّ المذاهب فروع الأديان , والأديان أصول المذاهب , فإذا ساغ الاختلاف في الأديان –و هي الأصول – فلم لا يسوغ فيالمذاهب و هي الفروع "
بهذا التفسيرالمنطقي يرّد التو حيدي على تساؤل ابن سعدان و يجيبه جوابا ربط فيه الأسباببمسبّباتها على طريقة الجاحظ في أساليبه المنطقية.
لقد كشفالتوحيدي عن كثرة المذاهب و الصّراع بين الفرق و التناحر بينها مما كان سببا فيتراجع الدّين و انقلاب القيم و الإفلاس الأخلاقي...
يقول متعرّضالمسألة انقلاب القيم " صار المنكر معروفا و المعروف منكرا" و يقول بارت البضائع وغارت البدائع و كسد سوق العلم و خمد ذكر الكرم و صار الناس عبيد الدّرهم بعدالدّرهم"
و يقول متحدّثاعن كثرة المذاهب و الفرق :" صار الناس أحزابا في النّحل و الأديان, فهذا نصيري وهذا أشجعي و هذا جارودي و هذا قطعي و هذا جبّائي و هذا أشعري و هذا خارجي و هذاشعيبي.... و من لا يحصي عددها إلاّ الله..."
و هذا التنوّعفي المذاهب ولّد صراعا و نستحضر هنا قول ابن سعدان آنفا من أين دخلت الآفة على أصحابالمذاهب ....و إباحة الدّم و المال "
هكذا نرى أنّاحتفال التوحيدي بالحقل في المستوى المضمون تجلى من خلال و وظائف العقلالتالية:
العقل الناقد : اضطلاع العقل في الإمتاع و المؤانسة بنقدالأوضاع السّائدة اجتماعيا و سياسيا و ثقافيا و عقائديا . فانتهى إلى أن الزّمانالذي يعيش فيه " زمان تدمع له العين " و العقل الناقد تحقق من دون تعصّب أو مذهبيةو إنما بجرأة و موضوعية و حرية . لذلك يقول ماجد يوسف :" كان التوحيدي مفكّرا حرّالم ينتم لمذهب و لم ينضو في جماعة و لم يتحزّب لرأي".
العقل المصلح : سعى التوحيدي إلى تقديم حلول إصلاحية من شأنها أن تنقل الموجودالمتدهور إلى عالم أجمل و الزّمان الذي تدمع له العين إلى مدينة فاضلة و ذلك منخلال :
دعوته السّاسةإلى الاستنارة بآراء العقلاء و مراقبة الحاشية و الاقتصاد في الشهوات و النّظر فيأمور الرعية و رفع مظالم الحاشية عنها ...يقول التوحيدي مخاطبا ابن سعدانّ : " و آخرما أقول أيّها الوزير : مرّ بالصدقات فإنها مجلبة السلامات و الكرامات و مدفعةللمكاره و الآقات و اهجر الشراب و أدم النظر في المصحف و افزع إلى الله فيالاستخارة والى الثقات بالاستشارة.
العقل المفكّر :
اضطلع العقل فيالإمتاع و المؤانسة بالتفكير في قضايا حارقة و معارف صعبة و أسئلة ماهوية في مجالاتمتعدّدة فقد فكّر عقل التوحيدي في علم التنجيم وعلم السّحر و الكهانة و علم السّماعوالغناء و علم الطّب و الحيوان و النبات و الإنسان و علم الأخبار و النجوم و السّحبو علم تعبير الرؤيا و الأحلام و علم اللّغة و البلاغة و المنطق و الفلسفة و علمالكلام...
العقل المصحّح : كثيرا ما يتوسّل التوحيدي العقل من أجل ممارسة الرّوح النقدية لبعض الرؤى أوالأفكار أو الأطروحات أو التصوّرات لينتهي إلى دحضها و تصحيحها بعيدا في كل ذلك عنمنطق التعصّب أو الوثوقيّة و ملتزما الى أبعد الحدود بالرّوح الموضوعية من ذلك : اعتراضه على بعض آراء أستاذه أبي سليمان المنطقي أو دحضه لتصّورات بعض المتكلّمينالذين قال عنهم " إن الطّريقة التي قد لزموها و سلكوها لا تقضي بهم إلاّ إلى الشك والارتياب"
العقل الحجاجي : توسّل أبو حيان بالعقل في ممارسة الحجاج وخاصّة في مجال :
- المناظرات مثلالمناظرة بين النثر و الشّعر....
-المفاضلات : مثلالمفاضلة بين العرب و العجم أو بين شعر أبي تمام والبحتري .
و العقل الحجاجي في الإمتاع و المؤانسة اقتضى من التوحيدي أن ينوّعالمسارات الحجاجية ( حواري –برهاني –العرضي ) مثلما أملى عليه تنويع الحجج (واقعية –منطقية –تاريخية (....
العقل المؤرّخ أو التسجيلي:
توسّل التوحيديالعقل ليؤرخ لبعض ملامح العصر أو ليسجّل بعض الأحداث أو المظاهر و قد تميّزالتوحيدي في هذا المجال :
-الالتزامبصرامة التاريخ و ذلك بذكر الأسماء و الأعلام و التّواريخ و نقل الأخبار الصحيحة بعدمعاينة
يقول معلقا عن ثورة الرّوم : » ذلك أن الرّم تهايجت على المسلمين فصارت إلى نصيبين بجامع عظيم زائد على ما عهد على مرّ السنين و كان هذا آخر سنة 362 هجري فخاف الناس بالموصل و ما حولها .
-الحرص علىالموضوعية و الأمانة العلمية و من مظاهر ذلك تحليل أحاديثه بشواهد من النّقل أوالواقع أو التّجربة , تحقيق النصوص و توثيقها و نسبتها إلى أصحابها , و إذا اختصرالكلام الذي سمعه نبّه على اختصاره , و إذا حكى معنى و عبّر عنه بأسلوبه صرّح بذلك . من ذلك قوله : فقال كلاما كثيرا أنا أحكيه على وجهة من وجهة المعنى و إن انحرفت عن أعيان لفظه و أسباب نظمه , و اجتهد أن ألتزم متن المراد و سمت المقصود ".
منقول