الفكر الأخلاقي عند أبي حيان التوحيدي
تحـــليل و نقــــــد ـــ د.محمد فوزي الجبر(1)
ملخص البحث:
عالج البحث آراء أبي حيان التوحيدي في المسائل الأخلاقية انطلاقاً من نصوصه الفكرية والأدبية، وذلك عبر رؤية تحليلية نقدية علمية دقيقة حاولت الكشف عن تلك الأسس النظرية المنهجية التي أقيم عليها الأخلاق. واستفاد البحث من الخبرة التاريخية والدينية والعقلية لعصر التوحيدي التاريخي في مناقشة هذه المسائل. واستعرض الباحث بعض القيم الأخلاقية وناقشها على ضوء المنهج العلمي، ورأى أن أفكار التوحيدي الأخلاقية لا تخلو من التأثر ببعض الاتجاهات اليونانية وخاصة /الأفلاطونية/ شأنه في ذلك شأن الفلاسفة الإسلاميين. ويكمن هدف البحث في السؤال الآتي:
هل تجاوز التوحيدي في عرضه للمسائل الأخلاقية الإرشاد والتقرير والحكمة والأمثال إلى العقل والتأويل؟...
مقدمة:
ما زال مجال الفلسفة الإسلامية خصباً، وما زال كثير من الموضوعات والشخصيات فيه تشكل حقلاً بكراً، ولعل موضوع الأخلاق من الموضوعات التي ما تزال تحتاج لكثير من الدراسة وخاصة في ضوء محاولات /إحياء التراث/ والبحث عن الأصالة في هذه الثقافة العميقة الهامة، رغبة في الدراسة والفهم لها كتراث حضاري وإنساني من جهة، ومحاولة للاستفادة من هذا المنبع الفكري والروحي في بناء فكرنا الجديد من جهة ثانية، والاضطلاع بدور يتناسب وتاريخنا في بناء حضارة الإنسان المعاصر، بمشاركة وفاعلية حقيقية، تعطي شرعية لوجودنا، وبالتالي تنأى بنا عن دور المتلقي السلبي، والبحث الفلسفي إذا ما امتد ليسجل المفكرين الذين جمعوا بين الفلسفة والأدب، بهدف الكشف عن مواقفهم الفكرية عامة، والفلسفية خاصة، وسوف يجد ثراء في هذا الميدان يضاف إلى كنوز الفكر الفلسفي العربي.
والتوحيدي لم يحظ بدراسة أكاديمية تعطي الجانب الأخلاقي عمقاً في التحليل والرؤية، مع أن صلة التوحيدي بالفلسفة لم تكن صلة عارضة، كما أنه لم يكن مجرد راوٍ أو تلميذ، بل امتلك شخصية فلسفية مستقلة في إطار الفكر الفلسفي الإسلامي. ومهمة البحث هنا الكشف عن الأسس النظرية المنهجية للأخلاق، في ضوء رؤية علمية قائمة على المنهج العلمي الموضوعي.
حقاً إن الأخلاق كانت مرتبطة بالدين، في حدود الفكر الفلسفي في الإسلام، وإن هذا الجانب لم يحظ بالعناية الكافية التي تتناسب وأهميته، حتى "تكاد تكون الفلسفة الأخلاقية من أقل فروع الفلسفة حظاً من عناية الدارسين والمؤرخين للثقافة الإسلامية الأقدمين والمحدثين على السواء، فابن خلدون في الفصل السادس من مقدمته حيث تناول (العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه) ذكر علوم العرب جميعاً دون أدنى إشارة للأخلاق(2)، كذلك لا يذكر ابن صاعد الأندلسي فيما ذكره عن علوم العرب شيئاً عنها(3).
وقد ناقش أحمد محمود صبحي هذه القضية، وعرض لآراء الباحثين حولها(4)، وهناك محاولة قام بها أحمد عبد الحليم عطية في رصد الاتجاهات الأخلاقية في الفكر العربي المعاصر، ويقول في المقدمة: (تكاد تكون الدراسات الأخلاقية في ثقافتنا العربية أقل التخصصات التي تحظى بالاهتمام والبحث من قبل الباحثين العرب المحدثين).(5)
وإذا نظرنا في فكر التوحيدي، وجدنا مفكرنا قد اهتم بالأخلاق اهتماماً بالغاً، وليس أدل على ذلك من تناوله لهذه المشكلة في معظم كتبه، حتى حظيت بأجزاء كبيرة منها، هذا بالإضافة إلى أنه في كتابه "رسالة في الأخلاق"، ربما كان يريد أن يبلور آراءه المتفرقة في بنية فكرية واحدة، والدليل على ذلك قوله: (وفي الأخلاق كلام واسع على غير ما وجدت كثيراً من الحكماء يطيلون الخوض فيه، ويعوضون المرام منه بتأليف محرف عن المنهج المألوف ولو ساعد نشاط، والتأم عتاد، وقيض معين، وزال الهم بتعذر القوت لعلنا كنا نحرر في الأخلاق رسالة، واسطة بين الطويلة والقصيرة، يستفاد منها ما وضح لنا بالمشاهدة والعيان وبالنظر والاستنباط، ولكن دون ذلك أرق ثقيل، وعوق طويل، والله المستعان)(6).
وكذلك يدرك التوحيدي ما في الموضوع من غموض وصعوبة (فأسرار الإنسان في أخلاقه كثيرة وخفية، وفيها بدائع لا تكاد تنتهي، وعجائب لا تنقضي)(7)، وهو يربط بين الأخلاق والدين والعمل تأكيداً على ارتباط هذه المفاهيم وارتكازها على محاور أساسية، ولذلك يقول: (ولو ميزنا الأخلاق بالشرح في هذا المكان للزم أيضاً أن يشرح الدين والعمل وجميع ما سلف اللفظ به وأتى الذكر عليه)(8).
وعندما يكتب التوحيدي في الأخلاق فهو يستفيد ويجمع بين النظر والتأمل العقلي والمعرفي، وبين الخبرة المتصلة بالواقع الحي المعيش كشأنه في تناوله لشتى الموضوعات الأخرى، فهو يستند في تدليله على صحة آرائه بالجانبين سواء أكان ذلك على لسانه أو منسوباً لغيره.
وفي (مثالب الوزيرين) يعرض التوحيدي مفاهيمه الأخلاقية، ولكنه لا يتعرض لذلك مباشرة، بل هو يعرض لهذه الموضوعات من خلال تناوله بالنقد للصاحب بن عباد، وابن العميد (الأب هو أبو الفضل ـ والابن هو أبو الفتح). ويؤكد مفكرنا في كتابه هذا ما يأتي:
1 ـ أن كل إنسان من الممكن نقده من زاوية أخلاقية.
2 ـ شريعة الثلب دينياً وأخلاقياً وخاصة في حق الشخصيات العامة بل وضرورة هذا للمصلحة العامة.
ويدافع التوحيدي عن آرائه هذه، ويؤيدها بالحجج الدينية والتاريخية والعقلية. فهو يطرح الجانب العملي في الأخلاق ومن زاوية الاستهجان يتعرض للاستحسان. ولابد عند مفكرنا من المعرفة بأحوال النفس المختلفة، معرفة تفرق وتوازن بين خلق وخلق، وهذه المعرفة ثمرتها (السلامة في الدنيا والكرامة في الآخرة)(9).
يتبع