البعد التداولي
لنذكر بأن النمذجة النسقية ليست إلا منهج تمثل إجرائي له غايات عملية, منهجا ينطلق من مسلمة تقر بعدم إمكان إنتاج معرفة كاملة و أن هذه التمثلات التي تنتجها النمذجة لا يمكن أن نقول عنها أنها صادقة أو كاذبة بل هي فقط تمثلات ناجعة للفعل المستقبلي بما أنها تمكن من تحقيق ضرب من التوقع و إلا لما كانت هذه التمثلات ناجعة. و هذا يعني أن ضروب تطور الأنساق المركبة تقطع مع النموذج الميكانيكي للنمذجة التحليلية, ذلك أن النموذج الميكانيكي يتحرك في مستوى حتمي في حين أن الأنساق المركبة تتحرك في مستوى لا حتمي.
فمنذ الثورة العلمية الثانية التي حققها اينشتاين في الفيزياء، نحن نعلم جيدا أن الواقع التجريبي يعبر عن تسلسل خفي للظواهر المواضيع مرتبط بالفضاء-زمان L'espace-temps، ولكن هذه الظواهر تبدو مستقلة عن بعضها في بناء لغات الوصف في أفق مصورن، ذلك أن المنطق الصوري في شكله الرياضي مؤسس على مبدأ الحتمية الذي يقرّ بأن حالة الظاهرة في الزمن "ز" المعطى، تحدّد حالة الظاهرة في الزمن "ز + 1" وهذا المبدأ هو ذاته شكل مهذب للحتمية باعتبارها قانون سببي والذي يقرّ أسبقية السبب على النتيجة.
ولكن يجب أن نلاحظ أننا لا نستطيع أن نغمض أعيننا على الضغوطات الفيزيائية، وربما حتى الكسموفيزيائية لمعالجة جيدة لضغوطات علوم التصور. فاكتشاف الكون في علوم التصور يقتضي تصوّر سببية خطية ومتعددة في ذات الوقت بالشكل الذي يجعل ممكنا تصور عدّة أسباب: التدبير، الاضطرابات التي تصدر عن المحيط،، الضغوطات المختلفة، التعديلات... لتحديد حالات مرتبطة بالحالات المراد تحقيقها، وذلك للتقليل من الفوارق بين هذه الحالات، وبناء رابط بين المنطقي والخبري أي بين المبررات القبلية بما هي « المماثلة المؤسسة علميا بين الوضعية الطبيعية والنموذج»، و المبررات البعدية بما هي «المجابهة التجريبية»، كما يعبر عن ذلك روني طوم R.Thom. وهكذا فإن تعدّد الأسباب في اشتغال نسق آلي يولّد أيضا نتائج ارتجاعية تساهم في فعالية النسق. والتكامل بين ما يتعلق بالمستوى القانوني التركيبي وما يتعلق بديناميكية قرينة (Contexte) المعرفة والفعل للوظيفة الدلالية، يساهم هنا في وظيفة التحويل الموحّدة للتجريد وفكّ شفرة التجريد. والفوارق بين المعطيات الخبرية والمعطيات المنطقية الصورية تحيل بالتناسب إلى تأويلات مختلفة للسيرورات التماثلية (المُحتوَى) وإلى تأويلات ترتبط بالمنطق الصوري (المحتوِي). ومن هذا المنطلق فإن التشنج، لاستعارة عبارة E.Morin، بين المُحتوَى / المحتوِي الذي يسعى إلى إظهاره الحكم ألتأليفي الذي يقارب كلّ ما نستطيع تمثله بطريقة مباشرة، وما يظهره الحكم التحليلي يتضمن تثبت وإمكانية دحض، صرامة، كمال، و مراقبة...
و هكذا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار درجة التركيب اللامتناهية للظواهر المدروسة حتى نتمكن من نمذجتها بواسطة المقتضيات المنطقية و التماثلية و الخبرية التي تستجيب لشروط العلمية, و من هذا المنطلق فان النموذج باعتباره تمثل مجرّد للواقع من جهة كونه يبسط هذا الواقع لفعل معيّن فيه و لا يبقى إلا على الخصائص الهامة بالنسبة إلى السياق الذي تتحرك فيه غاية الفعل، يجعل من النموذج نظرة ذاتية حول الواقع تمكّن من تمثيل اصطناعي للنسق المدروس. ذلك أن تقنيات ما يسمى بالواقع الافتراضي « réalité virtuelle » تمكّن المنمذج من الولوج و الفعل و التفاعل في عالم التأليف الذي يكوّنه الحاسوب, لأن مفهوم الواقع الافتراضي يتضمّن ثلاث معا
- الانغماس « Immersion »
- التفاعل « Interaction »
- الإبحار « Navigation »
و الانغماس يعني أنّ الفرد ينغمس كليا في الصورة بواسطة خوذة تسترجع رؤية مجسادية Vision stéréoscopique, أي صورة ثلاثية الأبعاد. أمّا التفاعل فانّه يعبّر على قدرة اصطناع و تحويل الصورة في الزمن الواقعي. و أخيرا يقتضي الإبحار الوجود في عالم افتراضي و تحقيق لقاءات بفضل منظومة التحكم في التواصل عن بعد. و تطبيقات الواقع الافتراضي ترتبط أوّلا بالفعل التحكّمي الذي يمكن من التدخل في الأماكن البعيدة أو الأماكن التي لا يستطيع الإنسان الولوج إليها مباشرة أو حتى الأماكن الخطيرة.
و النمذجة تستخدم تقنيات الواقع الافتراضي لتعويض التجارب المكلفة أو التي لا نستطيع انجازها فعليا في الواقع, لذلك تقدم هذه التقنية سندا في عملية التثبّت من ملائمة النموذج للنسق المدروس خاصة و أنّ الاصطناع الذي يستخدم برمجيات معلوماتية متطورة يمكن من دراسة ردود نموذج النسق المتطوّر, إذ يتعلق الأمر بأداة تثبت حيث ننطلق من الوصف البنيوي و الوظيفي للنسق الذي نريد اصطناعه و المتغير الذي نريد تطبيقه على مداخل النسق، و البرمجية المعلوماتية تمكن من حساب تطور النسق و تمد المنمذج بالنتائج التي تعبر عن نشاطه. و هذا يعني أنّ دراسة النموذج وفق التمثيل الاصطناعي تعوض أساسا التجارب المكلفة على التصاميم، لذلك يقول "رونيه توم" « بموجب التكلفة الباهضة للتجريب يكون علينا أن نستنجد بنماذج مبررة ماقبليا تبريرا جيدا ». و بالتالي يجب على المنمذج أن يحقق معرفة معمّقة باشتغال الأنساق التي يسعى إلى اصطناعها حتى يتمكّن من الحكم على حدود اشتغال النتائج التي يتحصّل عليها. و الصعوبة الجوهرية التي تعترض المنمذج في عملية التمثيل الاصطناعي تتمثل في تحقيق شرطين متعارضين, فمن جهة يجب أن يكون النموذج دقيقا لتحقيق نتيجة تعكس أحسن ما يمكن الواقع و من جهة ثانية يجب أن يكون النموذج على غاية البساطة الممكنة لنقلل أكثر ما يمكن من العمليات الحسابية.