كمال بوهلال عضو متميز جدا
المهنة : أستاذ تاريخ الاشتراك : 30/03/2009 المساهمات : 2176
| موضوع: تمهيد لمسألة النمذجة 2010-02-28, 14:53 | |
| تمهيد لمسألة النمذجة : بقدر ما يرتبط وجودنا المعاصر بالعلم ويلتبس بأدق معالم تجربتنا داخل اليومي، إذ أضحى العلم المحدد الأساسي لنمط وجودنا فان حقيقة هذه الممارسة تكاد تغيب عنا كليا. و حتى وان تعودنا اتهام "الموقف العامي"، وارتهاننا لكيفية وجودنا داخل اليومي، بما هي كيفية تقوم على الانفعال والرغبة و تكتفي بان تعيش الأحداث والوقائع والأشياء دون تفكير، لتبرير مثل هذا الجهل، فإننا لا نجد في مثل هذا التحديد ما يفسر حدة هذا الجهل وعمقه وشيوعه بحقيقة العلم. ذلك أنه حتى وان توجهنا نحو ما نعتقد توفرنا عليه من معرفة موثوقة بما يتقوم به العلم، فإننا نصطدم بعجز مماثل، بل لعله أكثر حدة ، نتيجة ما كنا نتوهمه من معرفة بالعلم . لقد تعودنا بداية أن ننظر للعلم بما هو معرفة نظرية مجالها معرفة الوقائع معرفة مجردة، وهذا التحديد يقوم على أساس التمييز بين العلم من جهة و"التقنية" من جهة ثانية. لا يعني هذا التمييز أننا نعتقد في تمايز مطلق بين العلم والتقنية وإنما كنا ننظر دائما إليهما باعتبارهما نشاطين مختلفين، وبغض النظر عن ما نتصوره من أفضلية وأولوية الممارسة العلمية عن التطبيقات التقنية، فنحن تعودنا النظر للتقنية بما هي ممارسة لاحقة على الممارسة العلمية حيث تكون التقنية هي التطبيق العملي للنظريات العلمية المجردة، غير أن حقيقة الممارسة العلمية اليوم تبرز لنا بشكل جلي أن هذا الفصل لا أثر له إلا في أذهاننا نحن، وإننا العلم أضحى لا يتقوم في بعض وجوهه إلا في ارتباطه بهذا البعد التقني الذي تعودنا على اعتباره ثانويا في النشاط العلمي. وقد تعودنا ثانيا أن ننظر للعلم باعتباره المعرفة الموضوعية بامتياز على أساس أن "الموضوعية" هي فضيلة النشاط العلمي، و أن ما يكسب العلم وضعه الاستثنائي مقارنة بمختلف أشكال الخطاب والمعرفة الإنسانية هي القدرة اللامحدودة التي يتوفر عليها العالم للتجرد عن كل ما هو ذاتي وشخصي في دراسته لمجال اهتمامه، وإقصاء كل ما هو قيمي من مدار انشغاله؛ إن ما يوجه ممارسة العالم هو سؤال "كيف؟" مستبعدا بذلك كل ما يتعلق بسؤال "لماذا"؟ وما يمكن أن يستتبع من هذا السؤال من إسقاطات ذاتية "تخون" حقيقة الظاهرة التي يدرسها العالم وتسقط عليها في المقابل انتظارا ته ورغباته. في هذا المستوى كذلك يبدو أننا لم نغادر مجال الوهم، فالممارسة العلمية اليوم، و في تقابل تام مع اعتقاداتنا، ترتبط إلى حد أبعد مما نتصور بكل ما هو ذاتي قيمي، ويتداخل في تشكيلها خيال وإبداع العالم الفردي كما انشداداته الاجتماعية والإيديولوجية بحيث لم يعد العالم يحترز أو يخشى ربطه بما هو ذاتي وإنما هذه الذاتية، في بعديها؛ الفردي والاجتماعي، أضحت من صميم عمله ولا تحيل على أي معنى من معاني الاستهجان والتوجس التي طالما واجهنا بها كل خطاب لا يحترم قداسة "مبدأ الموضوعية". وتعودنا ثالثا أن نحمل صورة طوباوية للعالم بما هو ذلك الإنسان الاستثنائي والمهووس بالبحث العلمي بما يتوفر عليه من عبقرية هي التي توجه نشاطه الحر، ومرة أخرى نصطدم بحقيقة مغايرة تماما حين حين نجد أن العلم يتقوم بما هو نشاط مؤسسي لا يكاد الجهد الفردي يذكر في إطاره. إننا لا نتحدث اليوم عن العالم بصيغة المفرد وإنما نتحدث عن "جماعة العلماء" وعن مؤسسات بحث ومخابر مهيكلة في إطار نظم أكاديمية واقتصادية و حتى إعلامية. و ارتبط العلم كذلك في أذهاننا، تقليديا، بالتمييز داخل العلم بين قطاعات مختلفة على أساس التمييز بين علوم صحيحة نتائجها يقينية وقاطعة مثل الفيزياء وبقبة العلوم التجريبية وعلوما أخرى نعتبرها "علوما لينة" بما هي لم تنجح بعد في الاستجابة لشروط العلومية ولا يمكنها أن توفر لنا إجابات قاطعة في خصوص ما تدرسه كما هو الحال بالنسبة للعلوم الإنسانية. ونحن هنا نكون بصدد وهم آخر بخصوص حقيقة العلم إذ أن الممارسة العلمية لم تعد تتشكل وفق هذه التوزيعية المبسطة مادام لم يعد هناك قيمة للأساس الذي كان يبررها. لم يعد تحديد خصوصية الموضوع هو الذي ينتج بشكل صارم خصوصية المنهج فجميع العلوم اليوم تدار وفق نفس المقتضيات المنهجية باعتبارها جميعا تتخذ من النمذجة مسارا معرفيا موحدا يربطها ببعضها من جهة كونها تعتمد نفس الإجراءات المنهجية وتتأسس وفق نفس الشروط والمقتضيات النظرية وتتحرك جميعها في إطار السعي لتحقيق نفس الرهانات. لا تتعلق الحيرة بخصوص النظر في العلم بسذاجة الموقف العامي حين لا يعنيه من المسألة غير ما يرتبط بمصلحته الفردية المباشرة التي تتقوم بالاستعمال الأداتي في إطار نمط الوجود الاستهلاكي، فذلك أمر إلى حد ما مفهوم ومحسوم أصلا، وإنما ترتبط هذه الحيرة وهذا التردد وهذه المفاجئة بتهاوي وتهافت كل ما كنا نعتقد معرفته عن العلم معرفة موثوقة. وتزداد هذه الحيرة توقدا حين نلاحظ ارتباط هذه الممارسة بمفهوم النمذجة الى الحد الذي اصبح معه لفظ العلم ذاته غريبا الى حد ما بسبب تقلص حضوره وارتباط جميع النشاطات التي تعودنا تسميتها بالعلم باسم مستحدث هو النمذجة والنموذج. قد لا يكون اللفظ ذاته غريبا اذ يمكن أن نصادفه على أنحاء شتى سواء تعلق الامر بالفلسفة أو بالعلم غير أن ما يفاجئنا حينها؛ أي ان حاولنا فهم هذا الذي حدث من تحول داخل العلم، انطلاقا مما تعودنا فهمه من استعمال للفظ النموذج لا يقدم بنا، حقيقة، أي خطوة في اطار مقاربتنا للمسألة. اننا أمام لفظ واحد ولكننا في حقيقة الأمر امام دلالتين مختلفتين الى حد بعيد بالنظر الى اختلاف مجالات اشتغال مفهوم النمذجة في الفلسفة وحتى في العلم "ما قبل النمذجة" كما في مستوى اجرائيات ورهانات النمذجة ذاتها ما بينم الحقلين. ما الذي تعنيه هذه التوطئة؟ وما الذي يقتضيه هذا الربط الأخير الذي انتهينا إليه من ربط للعلم بالنمذجة؟ هل يتعلق الأمر بحدث عادي من جهة "تاريخ العلم" أم أن الأمر يتعلق بتحول أكثر جذرية يجعلنا نعتقد أننا أمام اختراع جديد وطريقة جديدة في التفكير ليس للبشر عهد بها من قبل، قد لا يكون معها الا مجازا تسميتها بالعلم؟
_________________ وحيد الغماري منقول عن منتدى فلسفيات البكالوريا | |
|