*الوعي بالأنا مشروط بحضور الآخر : هيقل
بقدر ما مثلت فلسفة ديكارت، "أب الفلسفة الحديثة"، فتحا لأفق جديد داخل تاريخ الفلسفة من خلال استحداثها لمشكل الإنسان، فان التصور الديكارتي للإنسان القائم على أساس "الأنانة" قد ورط الفلسفة في تحديد ميتافيزيقي" للإنساني" يحصره في ذات مفكرة مكتفية بذاتها ومتعالية عن العالم والتاريخ والجسد والغير؛ إذ أن مجالها جميعا هو مجال الغيرية؛ مجال ما هو عرضي وهامشي. في مقابل هذا التصور الميتافيزيقي للإنسان ستمثل فلسفة هيقل أول محاولات الفلسفة للخروج من منطق الأنانة هذا من أجل فتح الوجود الإنساني على المعيش. يرتبط هذا الانفتاح في احد أبعاده الأساسية على إعادة التفكير في مسالة الآخر من جهة إثبات اشتراط تحقق الإنساني في الانفتاح على "الغير". فبأي معنى يمثل الانفتاح على الغير شرط تحقق الإنساني في الإنسان؟
إن ما يميز الوجود الإنساني بإطلاق عن الوجود الحيواني حسب هيقل هو انفراد الإنسان بميزة الوعي بالذات. إن هذا التحديد الأولي للإنساني بما هو وعي بالذات يحيل مباشرة على التحديد الديكارتي لحقيقة الإنسان ، غير أن هذا التماثل في مستوى التصور العام لا ينبغي أن يعمينا على خصوصية دلالة" الوعي بالذات "عند هيقل . يتنزل تفكير هيقل في مسألة الآخر بما هو غير في إطار "جدلية السيد والعبد". في إطار هذه الجدلية يكون حضور الغير أساسيا لتحقيق الوعي بالذات، باعتبار أن هذا الوعي بالذات يضل مشروطا بالوعي بتمايز واختلاف الذات عن الغير؛ و بعبارة أخرى فان الوعي هو الوعي بكون لي" أنا" خاصة و متمايزة ومختلفة عن بقية الانيات. بهذا المعنى يكون الوعي بالذات مشروط بالوعي بوجود الآخر والاعتراف بهذا الوجود(اعتراف لا يرى ديكارت أي ضرورة له) . انه ليس من معنى ولا من قيمة لأي شيء تقوله الذات عن ذاتها إن لم يعترف الغير بما تقوله هذه الذات.
إن هذا الوعي بالذات بما هو "اعتراف بالغير " يتخذ مسارا تطوريا يقوم على أساس بنية جدلية. فالوعي بالذات لا يحصل دفعة واحدة ولا يتحقق في لحظة آنية ، وإنما ينمو ويتطور من مستوى الوعي البسيط إلى مرحلة الاكتمال والتحقق الفعلي.
يتعين وجود الإنسان في لحظة أولى بما هو وجود طبيعي لا يتجاوز داخله الوجود الإنساني مستوى الوجود الحيواني؛ إذ أن وعي الأنا بوجوده هو نتيجة المسارات العضوية المرتبطة بحفظ البقاء، فتكون الرغبة ،بذلك، هي حافز هذا الوعي الأولي والحسي. فإدراك الإنسان لذاته ينحصر في الإحساس المباشر بهذا الوجود مادام هذا الوجود غارقا في الحياة العضوية. فما يجعل الأنا يستفيق على وجوده شرهو هذا الإحساس المباشر بالجوع أو العطش أو الحاجة للتناسل أو الأمن. يختزل الوجود الإنساني في إطار هذه المرحلة الأولى من الوعي – الإحساس بالذات – في مهمة الحفاظ على البقاء. يتميز هذا الإحساس المباشر بالذات بنمط من العلاقة مع الوجود يقوم على أساس إلغاء كل ما هو مغاير له ومختلف عن ذاته، وهو بذلك لا يعترف بحقيقة غير حقيقة وجوده كذات تحوز كل الوجود وكل الحقيقة. في المقابل فان الذات الأخرى تعيش نفس الإحساس بالذات أي أنها ترى أنه لا وجود إلا لوجودها هي.
إن ما يميز الوجود الإنساني عن الوجود الحيواني هو المسار التطوري الذي يأخذه هذا الوعي فالإنسان وعلى عكس الحيوان يكون قادرا على تجاوز مجال الرغبة العضوية التي هدفها حفظ البقاء وتحويل موضوع الرغبة من المجال الحيواني إلى المجال الإنساني يتجلى هذا التحول في موضوع الرغبة من الرغبة من رغبة حيوانية عضوية إلى رغبة في رغبة ذات أخرى. وبعبارة أخرى فان هذا التحول يتعلق بانتزاع إحساس الآخر بذاتيته وإحساسه بهذه الذات. يولد هذا الوضع المستحدث صراعا بين الأنا والآخر إذ أن كل منهما سيسعى إلى انتزاع اعتراف الآخر بكونه ذات مطلقة. فتحقق الوعي بالذات بما هو رغبة مجالها ما هو إنساني يستوجب نفي رغبة الآخر من أجل إعلان الأنا ذات واحدة لا منافس لها.
إن تحقق هذا الوعي بالذات المشروط بانتزاع اعتراف الآخر يستوجب التخلي عن الرغبة الحيوانية المتمثلة في حفظ البقاء، والتضحية بها برغبة إنسانية يستوجب تحققها المخاطرة أصلا بالرغبة الحيوانية أي مبدأ حفظ البقاء. هذه المخاطرة بالحياة هي التي ستقود إلى الصراع بين الأنا والآخر، صراع مميت تسعى من خلالها إلى انتزاع اعتراف الآخر أي فرض هيمنتها وسلطتها عليه. غير أن هذا الصراع لا يمكن أن ينتهي في كل الحالات إلى موت أحد الطرفين لأنه في هذه الحالة لن يكون بالنسبة للمنتصر معنى لانتصاره ما دام ليس هناك من يعترف له بهذا الانتصار، لذلك فان هذا الصراع ينتهي إلى استسلام أحد الطرفين مسلما للآخر بسيادته عليه ويقبل، مقابل الحفاظ على حياته ، بمنزلة العبد. عن هذا الصراع تنشأ علاقة إنسانية قائمة على ضربين من الوعي: الوعي بالسيادة والوعي بالعبودية.
إن ما يحقق إنسانية الإنسان هو تحقق الوعي بالذات ، وهذا الوعي بالذات مشروط بحضور الآخر وعلاقة الصراع التي يخوضها الأنا ضد الآخر صراع لا من أجل رغبة عضوية كما هو الحال بالنسبة للحيوان ولكن صراع موضوعة رغبة إنسانية هي الرغبة في السيادة وفرض اعتراف الآخر بالأنا كسيد.
المكتسبات:
*اقترن التفكير في الغير على نحو مستق لأول مرة داخل تاريخ الفلسفة بفلسفة هيقل.
*تحقق "الإنساني " في الإنسان على نحو كوني يستوجب الوعي بالذات.
*لا يتحقق الوعي الإنساني دفعة واحدة وإنما يخضع لصيرورة جدلية لحظتها الأولى الوعي بالحاجة البيولوجية ولحظتها الثانية الوعي بالرغبة ولحظتها الثالثة انتزاع اعتراف الآخر بالأنا كسيد.
* انتزاع اعتراف الآخر يستوجب خوض صراع مميت ضده، غير أن هذا الصراع لا ينتهي بموت أحد الطرفين وإنما استسلام أحدهما و قبوله بخضوعه للأنا الآخر.
* تتحدد علاقة الأنا بالآخر في ضل علاقة الصراع هذه التي يسميها هيقل ب "جدلية السيد والعبد".
أسئلة تقويمية:
أية قطيعة أحدثها هيقل في إطار تحديد "الإنساني" مع ديكارت؟
ما هو مضمون الوعي بالذات عند هيقل؟
ما الذي يستوجبه تحقق الوعي بالذات على نحو كلي عند هيقل؟