التجمع الدستوري الديمقراطي إعداد : حاتم بن عبد السلام
أستاذ أول للتعليم الثانوي
مدير المدرسة الإعدادية العهد الجديد بمساكن
الــوعي و إشـكـالــيَـة مـعــرفــة الــذات ( مشكلة الإنَية )
عادة ما نقرَ بأنَه بالوعي وحده نستطيع أن نلج إلى العالم بكل غموضه و التباسه فنتمكن من فهمه
و معرفته ليتجلى أمامنا في وضوحه و بهائه كما أننا بالوعي نتمكَن من معرفة أحاسيسنا الداخلية التي تمثل لغزا أمام عقولنا كذلك بالوعي نتمكن من وصف الأشياء التي من حولنا و تحديد ماهيتها بما هي مواضيع قابلة لأن نفكَر فيها و بالوعي أيضا تصبح لدينا القدرة على تخيَل الصور و تمثَلها , إنَه ببساطة ما يمكَننا من إصدار أحكامنا على أنفسنا و على الآخرين و على الأشياء داخل عالم صفته المميزة أنَه في حركية انفجارية دائمة و ديمومة متواصلة .
و لكن هل يعني هذا الإقرار بأنَ الوعي قادر على معرفة ذاته كما هو ؟ ذلك حتى و إن كان الوعي هذا القريب منا قد أصبح ضمن مجال معرفتنا فلا يعني أن تجربة الوجود التي يعايشها قد تمكننا من معرفة ماهيته الجوهرية بل يمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك لنقرَ أنَه لا يمكننا حتى أن نعرف من نحن . هذا ما يجعل العالم الخارجي يتجلى على أنَه أكثر وضوحا من العالم الداخلي , فعالم الأشياء الخارجية قابلة للقياس و الحصر بما هو عالم الموضوعيَة و المادة الذي يفرض نفسه على تفكيرنا بصورة متميَزة , أمَا العالم الذي نعتقد أنَه أكثر اقترابا من ذاتنا بما فيه الوعي في صورته النقيَة و الواضحة فنحن نجهل عنه أكثر مما نعرف إن لم نقل أننا لا نعرف عنه شيئا , و لعلَ هذه المفارقة هي التي عبَر عنها برغسون بقوله :
" إنَ النفس بالنسبة لذاتها تعيش في اغتراب , بينما تشعر نفس هذه الذات أنَ عالم المادة عالمها المألوف بل هو عالمها "
فهل يعني هذا الوضع الغريب للذات ( المفارقي ) أن الذات لا تعي إلاَ ما كان متخارجا على ذاتها ( ما ليس هي ) دون أن تنجح في تحقيق معرفة بمن تكونه هي ؟
فنحن نفاجئ بحقيقة قاسية على أنفسنا تؤكد على عدم قدرتنا الوعي بذاتنا و بإنيتنا ؟
فمن نحن ؟ و من نكون ؟ و من يدَعي أنَه تمكَن من معرفة ذاته ؟ خاصة و أن تاريخ الفلسفة في مختلف مراحله لم يتمكن من تحقيق اتفاق واحد حول هذا الإشكال فليس هناك فيلسوفان اتفقا على تعريف واحد للإنسان في أبعاده الواعية فمن هنا يعلَمنا تاريخ الفلسفة درسا في الريبية في هذا المجال كما يرى ذلك بول ريكور .
في هذه الحالة من الأجدر البحث عن الوسائل التي تجعلنا نهتدي لحقيقة ذواتنا و هل يمكن للوعي أن يتجلى لذاته من خلال حضوره أمام ذاته أم أن اكتشاف حقيقة الوعي لذاته تفرض بصورة ماقبلية أن يكون هذا الوعي جاهلا بهويَته ؟ فهل بمستطاع الوعي معرفة ذاته بذاته ؟
إن إشكالية معرفة ذاتنا تدفعنا في مستوى أوَلي إلى تحديد طبيعة كينونتنا بمعنى طرح سؤال من أكون أنا ؟
بالنسبة للموقف الطبيعي فإنَ الإجابة المباشرة تسارع بالقول :
1- الأنا يعرَف بما هو فرد ينتمي لثقافة معيَنة
2- أنا أكون من أنا بالدور الذي أقوم به داخل المجتمع ( تلميذ , أستاذ , عامل , طبيب ..)
3- أنا أكون بجسدي
4- أنا أكون كشخصيَة لها خاصيات أخلاقية و روحيَة و فكريَة فانا أكون من خلال ما لي من ماضي و من حاضر ......
نلاحظ أن كل تعريف من هذه التعريفات يعبَر عن معرفة بذات فردية خصوصيَة في أبعادها الضيَقة
و المحدودة فيبقى بذلك تعريفا غامضا و ملتبسا و ذلك للأسباب التالية :
1 – أن أقول " أنا عربي " أو " أنا تونسي " فهذا يعني تحديد هويتي من خلال الثقافة التي انتمي إليها و أعتقد بكل فخر أنها ترسم ملامح ذاتي و تجعلها تختص بطابع مميَز يحدَد شكل اختلافي مع الآخرين الذي يمكن أن يصل إلى حدَ التضاد .
المشكل في هذا التعريف المعتمد على الخاصيات الثقافية أنه يبقى تعريف عام جدا فهو واقعيا ينطبق على الآلاف من الذوات التي تشترك معي في هذه الخاصية بل أن هذه الذوات هي بدورها تؤكد على هويتها من خلال ثقافتها بصورة متعصَبة مما جعل العديد من الثقافات تدخل في علاقات صداميه تغذي بها العنف و الإرهاب و الحروب من هنا نستنتج أن هذا التعريف المستند على الأبعاد الثقافية لا يعرَف إلا مجال انتماء الأنا في أبعاده العامة و الشاملة و اعتمادا على مقارنته مع الأخريين كاختلاف فنفقد بذلك مجال خصوصية الأنا الفردية .
2 – أن نقول " أنا تلميذ في البكالوريا " أو " أنا مهندس " فهذا يجعل تعريف الذات مستندا على الدور الذي تلعبه في المجتمع و كأن الدور هو خالقا لهويَة الأنا .
إلا أن عملي أو هوايتي أو اسمي لا يمكن لكل هذا أن يمثَل حقيقة من أكون في أبعادي الجوهرية , فانا لي دور في العالم مثل أي إنسان آخر كما أن الدور لا يمكن أن يختزل ذاتيتي فأصبح أنا الدور ذاته , فمنطقيا أنا ألعب دورا في المجتمع و لست الدور ,على اعتبار أن معرفة الأنا لذاته يفترض مواجهة الذات و النظر إليها مباشرة فتتجلى شخصيتي و إنَيتي و ليس أن يختفيا وراء دور يمكن لأي كائن آخر أن يقوم به , فلحظة تميَز الأنا يجب أن تكون واضحة و مفهومة و خالية من أشكال الخلط و الالتباس لأنها تمكَننا من الكشف عن نشاط الذات في أبعادها الحميميَة .
3 – القول بأن هويتي تتحدد من كوني أنا جسدي لا يفترض أن يكون لي جسد فقط بل أن أكون أنا هذا الجسد و هذا التعريف يبدوا أنه عاما جدا
** من جهة أن كل إنسان له جسد فمن هذا الذي لا يستدل على ذاته من خلال جسده
** من جهة ثانية فإن الاعتماد على الصورة الجسدية يجعلنا نسقط إما في ضرب من النرجسية المتباهية بجمال هذا الجسد و يصبح هاجسنا الرئيسي مزيد تجميله و الحفاظ عليه و إما ندخل في ضرب من أزمة الهوية عندما يشعر الواحد منا بأنه قبيح و يتحول هذا الشعور إلى نوع من عدم الرضا على الذات و الخجل أمام الآخرين
أن نعرف أنفسنا من خلال الجسد يعني أن نكوَن صورة لذاتنا يمكن أن تنزلق في ضرب من النرجسية المضخمة للذات و المقصية للآخر أو في ضرب من النفي الذاتي المقصي للذات ( عنف )
و المطلوب هو تعريف الأنا من خلال فهم طبيعة التوازن الذي على الأنا أن يحققه مع صورة الجسد
4 – أن أعرّف ذاتي بوصفي شخصيّة ( personne ) فهذا يعني أنّني ذات لها خاصية أخلاقية وكرامة كما أنني أتحلى بروح المسؤولية و الاستقلالية أي أن أكون حرَ و قادر على الوعي بتصرفاتي أمام ذاتي و أمام الآخرين , و كلما كنت شخصية قائمة بذاتها و قادرة على الإحساس بالقيمة الإنسانية في أبعادها الكونية من خلال ذاتي كلما تطورت أكثر درجات وعيي بذاتي .
إلا أن هذا التعريف يبدو مغرق في الصورية باعتبار أن كل إنسان يمثل شخصية قائمة بذاتها و هي خاصية مشتركة بيننا و لا تحيل إلى خصوصية ذاتي الحميمية بالضرورة و إنما تمكنني من معرفة واجباتي و حقوقي تجاه الآخرين و هذا لا يكفي لتحقيق معرفة حقيقية بمن أكون .
إن استبعاد كل هذه التعريفات هو الذي يقودنا إلى العودة إلى مفهوم الأنا بما هو كائن مفكر فالانا يتحدّد من خلال أفكاره و أفكاره هي التي تكوّّن محض إنّيته , لذلك فإن التساؤل عن معرفة الذات لذاتها - إذا ما استبعدنا الإجابات العامة ( مرتبطة بالحس المشترك ) – سوف يقودنا إلى البحث في المقاربة الاستبطانية بما هي انعكاسا مرآويا لذاتي بما تحمله من أحداث شخصية و أفكار حميمية و تصورات عميقة متجذرة في تجربتي الداخلية , فيتحدّد المعنى الحقيقي للأنا من خلال الماضي الذي عايشته و الذكريات التي ترسبت في مخيلتي و من هنا تكون لحظة الانتباه لذاتي هي لحظة تفجّر المعنى الخفي لإنيّتي واستكشافها كحضور دائم أمام ذاتها . مع تحيات - حاتم -