محاولة في تحليل نص: الفلسفة والشريعة للتوحيدي
مثّلت حركة الترجمة في العهد العبّاسيّ منفذا للانفتاح على الحضارة اليونانيّة والاطلاع على علومها المنطقيّة والفلسفيّة وهو ما أثرى الثقافة العربية الإسلاميّة بمباحث فكريّة متنوّعة كانت علاقة العقل بالنقل عنوانا رئيسيا من عناوينها
وفي هذا الإطار يتنزّل نصّ التوحيدي باعتباره صدى لهذا الجدال الفكريّ حيث يحلّل التوحيدي طبيعة العلاقة بين الفلسفة والشريعة مبرزا مقوّمات كلّ مبحث ومقاصده.والنصّ في بنائه تتجاذبه نزعتان:نزعةُ انطباعيّة يهوّن فيها الوزير من قيمة الفلسفة ونزعة عقليّة استدلاليّة يثبت فيها التوحيدي قيمة الفلسفة وعلاقتها بالشريعةفما هي مظاهر الائتلاف والاختلاف بين العقل والنقل ؟ وكيف يرى التوحيدي طبيعة العلاقة بين الشريعة والفلسفة ؟
* اكتسب كتاب الإمتاع والمؤانسة قيمته من خلال القضايا الفكريّة التي يبسطها وهي في الحقيقة انعكاس للثقافة الإسلاميّة في ثرائها وتنوّعها. وقد عرض الوزير ابن العارض في هذا الحوار والمجلس موقفه من الفلسفة حيث اتّخذ أبا سليمان منطلقا للهجوم على الفلسفة والتهوين من شأنها وقد تجلّى هذا التهوين من خلال معجم التحقير (الاستحقار، التغضّب، الاحتشاد، التعصّب) إذ اعتمده الوزير لينحدر بالفلسفة إلى مراتب الرفض والإقصاء. والحقيقة أن هذا الموقف ينبع من صراع فكري عميق بين العقل والنقل لذلك عمد الوزير إلى الإحالة على النسب النصراني لأبي سليمان ([حرف جر يفيد النسبة ] (= من غلمان يحي بن عديّ النصرانيّ =) [ نسبة ] ) وهو بذلك يبيّّن أن الفلسفة تتعارض تتعارضا كليّا مع الدين بل هي بذلك قرينة الزندقة والكفرهكذا يعكس موقف الوزير تصوّرا شائعا للفلسفة يقوم على مبدإ الرفض والإقصاء وهو نتيجة طبيعية لمفاضلة تعتبر الشريعة أرقى مراتب المعرفة .تكفّل التوحيدي في القسم الثاني من النصّ بالردّ على هذا الموقف من خلال البحث في مقوّمات الفلسفة وطبيعة علاقتها بالشريعة. انطلق التوحيدي بالإثبات قيمة الفلسفة وأقر بشرعيتها فجنح إلى المماثلة ( إن الفلسفة حقّ... والشريعة حقّ ) ليسوّي بين قيمة الفلسفة والشريعة باعتبارهما مقوّما أساسيّا من مقوّمات المعرفة وأصلا مكينا من أصول التفكير. ثمّ سعى التوحيدي في مستوى ثان إلى بيان خصائص كل مجال لذلك فرّق بين الفلسفة والشريعة في مستوى الخصائص المنهج وقد استأنس التوحيدي في هذا السياق بأسلوب المقابلة ليرسم الحدود الفاصلة بين الفلسفة والشريعة فالفلسفة تستند إلى العقل في تفسير العالم وإدراك خصائصه وهي بذلك خطاب مفتوح قابل للتعديل والتحوير لأنه يقوم على التمحيص الشك أمّا الشريعة فهي تعوّل على النقل وتحتكم إلى مرجعيّة سماويّة أساسها الوحي والتنزيل إن الشريعة بهذا المنطق خطاب تام مكتمل يستند إلى مقولات ثابتة تقوم على ثنائية الحلال والحرام هكذا يتضح من خلال هذا المقابلة أن كل مبحث يتفرد بخصائص تميّز أحدهما عن الآخر وتتلخص مظاهر الاختلاف في مستوى المنهج وآليات والتفكير لأن لكل مجال مرجعيته الخاصة. لكنّ هذا الاختلاف لا يعني بالضرورة الصدام والقطيعة بقدر ما يمثل عاملا من عوامل الإثراء لذا خص التوحيدي القسم الثاني من تدخله ليبرز مظاهر الاشتراك بين الفلسفة والشريعة وهنا استأنس بأسلوب المماثلة ليظهر المؤتلف بينهما ( يكون بالدين متقربا إلى الله ويكون بالحكمة متصفحا لقدرة الله ) . يدل حرف الجرّ " الباء" في هذا السياق ( بالحكمة... بالدّين) على معنى الاستعانة وهو ما يؤكد أن الدين والحكمة سبيل لإدراك قدرة الله في الكون وعلى هذا الأساس يتضح أن العقل والنقل يتماثلان في المقاصد والغايات فمثلما تروم الشريعة إدراك قدرة الله في هذا العالم تسعى الفلسفة إلى هذا الغاية وهذا الاشتراك بنظر التوحيدي دليل وبرهان على شرعيّة الفلسفة من حيث هي سبيل للتقرب إلى الله وإدراك عظمة خلقه بل إن هذا الاشتراك مبرر قوّي للإقرار بالتكامل بينهما.هكذا استند التوحيدي في تناوله لقضية العقل والنقل إلى منهج استدلالي عقليّ هدف من خلاله إلى دحض كل التصورات التي ترفض الفلسفة وتعتبرها معارضة للدين. وقد تجلى هذا المنزع العقلي من خلال ما آل إليه الحوار فقد تحول الوزير من موقف رافض للفلسفة إلى موقف الاقتناع بقيمتها في خدمة الشريعة لقد بحث التوحيدي في مظاهر الاختلاف والائتلاف بين الفلسفة والشريعة ورنا من خلال ذلك إلى تحرير الفلسفة من نظرة الإقصاء والرفض لأنها في الأصل تشترك مع الدين في إدراك خصائص الكون وهو ما يشرع حتمية تكاملها مع الدين. إنّ الفلسفة في تكاملها مع الدين سبيل الإنسان إلى إدراك قدرة الله وعظمته