مفهوم الزمن قديما وحديثا مفهوم الزمن :
• المعنى اللغوي :
4
تذكر معاجم اللغة أن الزمن والزمان اسم لقليل الوقت و كثيره ، والجمع أَزمُنْ، وأزمان،
. وأزمنة، و أًَزْمَنَ الشيء :طال عليه الزمن ، و أَزْمَنَ بالمكان : أقام به زمنًا 1
• المعنى الاصطلاحي :
كان مفهوم الزمن موضع َلبْ ٍ س واختلاف بين المفكرين ، سواء القدامى منهم أم المحدثون ، لكنهم
ربطوا - بشكل أو بآخر- بينه وبين الحركة والتغير في الأشياء ، فبدون حركة وتغير لا يوجد
زمان ، والزمان يعتمد على هذه الحركة وهذا التغير ، ويقاس بالفواصل القصيرة والطويلة التي
. تتعاقب فيها الأشياء 2
وقد عرف الكثير منهم الزمان بأنه " مقدار حركة الَفَلك 3 .أو ساعات الليل والنهار ، يقال ذلك
للطويل من المدة والقصيرة منها 4 .أو أنه علاقة تنجم عن حركة جرم الأرض حول الشمس,
وحول نفسه ,فليس ثمة زمان في غير الكواكب , بل ليس ثمة زمان خارج مخروط كل كوكب
". إذ ما الليل إلا ظل الأرض, وليل الكواكب هو ظلها 5
ومنهم من قال :" إن الزمن َتصَوّر ينشأ لدى الإنسان من ملاحظته للتغيرات في الأشياء سواءً
. كانت حركية أم كيفية " 6
الزمن في الفكر الأسطوري:
إذا ما نظرنا إلى الزمن من خلال التراث والمأثور الإنساني وهما حصيلة المعرفة البشرية
اللذين أبدعهما الإنسان تسجيلا لوقائع حياته، ووصفا لمواقفه إزاء تجربة الحياة، وتعبيرا عن
انفعالاته فسنجد أن الزمن هو"المقياس" الذي ابتدعه الإنسان في تصور هندسي لمتغيرات
1 ابن منظور، جمال الدين : لسان العرب ، المجلد الثالث ، دار صادر ،بيروت- لبنان (د.ت) ، ص 199 ,مادة (زمن).
2 الألوسي، حسام : الزمان في الفكر الديني والفلسفي وفلسفة العلم ،ط 1 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،
. بيروت، 2005 م، ص 169
3 الزركشي، بدر الدين محمد : البرهان في علوم القرآن ، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم ، دار المعارف،
. مصر ، 1957 م، ص 123
4 . الطبري، محمد بن جرير: تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 1 ، دار المعارف بمصر 1960 م، ص 9
5 جبر, يحيى:نحو دراسات وأبعاد لغوية جديدة, سلسلة أسفار العربية,ط 1,(د.ت),نابلس_فلسطين,ص 72
6
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] نايف , نبيل : الزمن أعقد المفاهيم، (مقالة) , الموقع الإلكتروني
5
حياته 1 . لقد ارتبط مفهوم الزمن في تصور الإنسان منذ مراحل الحياة الإنسانية الأولى بعالم
المتغيرات الذي يحوطه ويعايشه، فكل ما حوله في تغير مستمر،عالم السماء بكل ما فيه من
. كواكب، وقمر وشمس، ورياح , وسحب , وبرق , ورعد ,وأمطار في دورة حياة متكررة 2
ومنذ لحظة وجود الإنسان على الأرض مع لحظة السقوط والخروج من الجنة ما زال في حيرة
من تقييم وجوده الآني، ودهشته إزاء المتغيرات التي تحوطه وتشمل كيانه، وسعى إلى محاولة
معرفة سر هذا التغير، وفي محاولته المستمرة للكشف عن المجهول والقوى التي اهتدى إليها
. بحدسه الفطري كعلة لهذا التغير ثارت في نفسه دوافع القلق من واقعه والخوف من مصيره 3
لقد حاول الإنسان بتصوراته التجريدية، واجتهاداته التجريبية أن يخرج من" َنسَقِ التغير" إلى
"َنسَقِ الثبات"، ويحيا بشباب دائم بلا شيخوخة ولا فناء، فعاش في صراع مع الزمن، وابتدع
. بفكره التلقائي ونظره الفطري أساطير تدور أحداثها حول فكرة إمكانية البقاء بلا وَهْن 4
تروي نصوص ملحمة "جلجامش" البابلية أن جلجامش بطل مدينة " أوروك " وملكها قضى حياته
في الصيد واللهو والبطش بالناس منتشيا بقوته الخرافية، وطاقته المتفجرة،ثم يتعرف على"أنكيدو"
نده، فتغير الصداقة العميقة التي ربطت بينهما مجرى حياته،فيقرر تحويل قواه وطاقاته للعمل
المجدي الذي ينفع الناس، فيقوم الصديقان بمغامرات عديدة ذات أهداف سامية, إلا أن "أنكيدو"
يموت نتيجة إحدى هذه المغامرات. وهنا يصحو جلجامش على المأساة والحقيقة في حياة
البشر،فيهيم على وجهه في البراري والصحارى تاركا عرشه، باحثا عن سر الخلود وإكسير
الحياة الدائمة 5 .عرف "جلجامش" موضع النبات الذي ينبت في أعماق المياه، والذي إذا أكل
الناس منه يعود الشيخ إلى صباه كالشباب، وجلجامش في صراعه الملحمي ضد الشيخوخة
الزمن القادم بالموت لم يهدف من ذلك إلى منفعته الذاتية،بل هو يغالب الزمن من أجل أبناء
مدينته "أوروك". لكنه وبعد أن نجح في الحصول على النبات السحري أبصر بئرا باردة الماء,
1 كمال ، صفوت: مفهوم الزمن بين الأساطير والمأثورات الشعبية،مجلة عالم الفكر ، الكويت، 1977 . ، المجلد الثامن،
. العدد الثاني، ص 517
2 . المصدر السابق: ص 516
3 . المصدر نفسه: ص 516
. 4 المصدر نفسه: ص 516
5 . السواح، فراس: مغامرة العقل الأولى دراسة في الأسطورة، ط 1 ، دار الفكر، دمشق، ص 162
6
فنزل منها ليغتسل في مائها، فشَّمت الحية شذى النبات،فتسللت واختطفته، ثم نزعت عنها غلاف
. جلدها، وبتأثير ذلك النبات السحري استطاعت الحية أن تجدد شبابها بنزع جلدها كل عام 1
وأما في مصر القديمة فإننا نجد الصراع مع الزمن بشكل مغاير، فالإنسان المصري لا يهرب
من الموت الذي يأتي به الزمن، ولا يوجد صراع بين الإنسان والقدر(أحداث الزمن) الذي
فرضته عليه الآلهة، ورحلة الموت عند المصريين هي"رحلة تمجيد في الأفق"،وما الموت في
نظرهم إلا استمرار لحالة التغير المتكرر في كل ما يحوط الإنسان،فهو أي الموت َت َ غيُّرٌ
في الحياة، وليس انتهاء حياة ، والزمن عندهم زمن متصل والمستقبل هو امتداد للحاضر بلا
تقطعات، ولذا فقد حاول الإنسان المصري أن يتغلب على فناء الجسد بتحنيطه وحفظه،تأكيدًا
على عقيدة الخلود في الحياة الأخرى, ورحلة الإنسان من الشرق إلى الغرب عابرا النيل حيث
المقابر هي نفسها رحلة الشمس من الشرق إلى الغرب في موكب الشمس التي تعبر النيل حيث
الرُّسُوُّ لمواصلة حياة متجددة 2. لقد تعلم الإنسان المصري من الشمس حساب الأيام والسنين،
. وعرف المواسم والفصول، ومن هذا الحساب اشتقت نظم التقويم فيما بعد على مر العصور 3
والزمن في الأساطير اليونانية زمنان: زمن حياة الإنسان على الأرض، وهو زمن الصراع مع
القدر وهو حاضر مليء بالمعاناة وزمن آخر هو زمن الموتى، حيث يكون المستقبل في
زمن الأحياء هو حاضر في عالم الموتى، وحياة الإنسان مَُقدَّرَةٌ عليه تقديرًا،ووجوده هو زمنه
. الحاضر ليحقق ما يريد وفق إرادة الآلهة التي اختارته 4
وإذا تأملنا فكرة الزمن في الأساطير الهندية فسنجد أنه لا انفصام بين ما كان وما هو كائن،بل
الزمن كما يرمز له بعجلة مكتملة الاستدارة من العجلات الاثنتي عشرة التي تحمل عربة الشمس
. في رحلتها المستمرة،ويكون مُكَْتمَلُ النهاية هو البداية 5
1 كمال، صفوت: مفهوم الزمن بين الأساطير والمأثورات الشعبية،مجلة عالم الفكر ، الكويت، 1977 ، ، المجلد الثامن،
. العدد الثاني، ص 517
2 المصدر نفسه: ص 520
3 . المصدر نفسه ص 520
4 . المصدر نفسه:ص 522
5 . المصدر نفسه: ص 524
7
من هذا العرض "لموضوع الزمن" في بعض الأساطير القديمة لبعض الشعوب نتبين أنها كلها
تحاول إيجاد علاقة منطقية،بين زمن الإنسان وزمن الكون، وأن تصور هذه الشعوب للزمن
ّ شكل عندها حسًا زمنيًا لا يمكن الاستغناء عنه، أو صرف النظر عنه،وبالتالي عن الدور الفعال
الذي يلعبه الزمن في حياتها، حتى قادها الأمر أخيرًا إلى اعتباره دائريًا متكررًا على هيئة
فترات منتظمة.
الزمن عند الفلاسفة القدماء :
شغل موضوع" الزمن" حيزا كبيرا من تفكير الفلاسفة، وانصب اهتمامهم بشكل خاص على
ماهية الزمن(حقيقته)، ووجوده. ولسنا في معرض الخوض في المسائل الفلسفية حول الزمن،
التي اتفق عليها الفلاسفة أو اختلفوا حولها , إذ ليس هذا من شأن هذه الدراسة , ولكننا
سنستعرض _في عجالة لا إطالة_ لفكرة الزمن عند عدد من الفلاسفة،بغية إلقاء المزيد من
الضوء حول هذه الفكرة، واستكما ً لا للصورة التي رسمها المفكرون له منذ القدم، قبل أن ننتقل
إلى موضوع دراستنا.
أو ً لا: الزمن عند أفلاطون:
الزمن عند أفلاطون مخلوق مع خلق الأجسام السماوية وحركاتها، وهو يرى أن العالم المتحرك
له زمن، فيه ما ٍِِِِِِ ض وحاضر ومستقبل، وهو أي الزمن ُ كلٌّ متصل لا وجود له، دون حركة
وعالم متحرك, وعليه فإن معنى الزمن عنده يتصف بالمتحركات، وهذه لها بداية في الصنع
وبالتالي فالزمن له بداية, وبدايته مع العالم فهو إذَا مدة المتحركات. أما النموذج أو الله فهو
. خارج الزمن والحركة، وهو في حضور دائم لا علاقة له بماض أو مستقبل 1
ثانيًا: الزمن عند أرسطو:
نظر الفيلسوف الإغريقي أرسطو إلى الزمن باهتمام بالغ , حيث جعله أحد مقولاته العشر التي
هي أعم أجناس الوجود, وهي : الجوهر, الكم, الكيف, الإضافة, الزمان, المكان, الوضع الحالة
. , الفعل, الانفعال 2
1 . الألوسي، حسام : مصدر سابق , ص 103
2 . الخولي , يمنى طريف : الزمان في الفلسفة والعلم , الهيئة المصرية العامة للكتاب , 1999 , ص 9
8
وهو عنده عدد الحركة(مقياسها) ، ومن ثم فليس الزمن إذًا حركة، بل هو عدد لها, لا بمعنى
الذي به يُعد، بل بمعنى العدد الذي يُعد والمعدود،فالزمن عدد للحركة بمعنى الشيء المعدود منها
وما لم يُعد بعد , وهو تابع للحركة , ويُحَدَّدُ بها أيضًا , فنقول: زمان كبير, وزمان يسير, أي
. زمان كثير لأن الحركة كثيرة 1
وليس للزمان عنده بداية ولا نهاية، لأن الزمان يرتد إلى الآن،والآن زمن مضى، وبداية زمن
. مستقبل، فقبله زمان وبعده زمان 2
ثالثًا: الزمن عند إخوان الصفا:
فكرة الزمن عند إخوان الصفا وتصورهم للعالم والله ،أقرب ما تكون إلى الفيلسوف الإغريقي
أفلوطين، غير أن فيها عناصر أفلاطونية وأَ ِ رسْطية وسواهما، فهم يقولون بأن النفس الكلية
- التي تفيض عن العقل، والتي إذا قاربت جسمًا من الأجسام صيرته حيًا مثلها - هي سبب
حركة الأفلاك، وهم يقولون بانتهاء الزمن المتحرك، والعالم المُتزَمٌن، إذا رجعت النفس إلى
. أولها وكفت عن الحركة. وهم يعتبرون الزمان مقدار الحركة، أو مدة تعدها الحركة 3
ويرفض إخوان الصفا رأي الجمهور القائل إن الزمان هو " مرور السنين والشهور والأيام
والساعات , كما يَرُدُّون النظريات التي تؤمن إما بخلود الزمان أو بلا وجوده المطلق , وكذلك
. فإنهم لا يولون ثقتهم كثيرًا لأتباع النظرية الفلكية الجغرافية عن الزمان 4
ويرى الإخوان أن الزمان صورة محضة ومفهوم مجرد، بسيط ومعقول يُنْضِجُهُ الفكر بفاعليته
فيحصل في النفس من كرور الليل والنهار حول الأرض دائمًا صورة الزمان كلها , كما يحصل
فيها صورة العدد من تكرار الواحد 5. ومن ناحية أخرى , فإن أمر الزمان هو عين أمر المكان
والحركة والصورة . إنها مفهومات عامة تنطبق على الأجسام كافة, ولا مندوحة عن دراستها
لمن يريد معرفة "أشياء" الطبيعة . ولكن الفائدة القصوى لمعرفتها – وهي المسماة علم مبادئ
1 . الألوسي , حسام : مصدر سابق , ص 122
2 محبشي، قاسم: التصور الأسطوري للتاريخ والزمان، (دراسة) مجلة جدارية، الموقع الإليكتروني
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]3 . الألوسي، مصدر سابق، ص 154
4 . العوا , عادل : حقيقة إخوان الصفا , ط 1 , الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع ، دمشق 1993 ، ص 147
5 . المصدر السابق: 147
9
الأجسام – إنما تتمثل في أنها تتيح للإنسان فحص المسائل اللاهوتية, ومن ثم دراسة "الأشياء"
. الإلهية التي هي جواهر باقية خالدة لا يعرض لها الفساد 1
رابعًا : الزمن عند المتكلمين:
يصف المتكلمون الزمن بأنه متجدد معلوم، يقدر به متجدد آخر موهوم، كما عند طلوع الشمس،
فإن طلوعها معلوم، والمجيء موهوم فإذا قرن الموهوم بالمعلوم زال الإبهام. وهم يرون أن
الزمان جزء من العالم يبدأ معه، والعالم عندهم حادث بعد أن لم يكن, وله مُحْدِثٌ, وهو - أي
العالم- جواهر وأعراض متعلقة بها, والأعراض حادثة, لأنها إما متحركة أو ساكنة, أو مجتمعة
أو متفرقة, وهذه تغيرات, فالعالم والزمان متساوقان, والزمان عندهم مقياس الوجود، أي وجود
الجرم ساكنًًا أو متحركًا، أو هو مدة وجود العرض في الجسم، وهو َ كمٌّ متصل وليس منفص ً لا.
. كما يرون أن الله ليس في زمان 2
خامسًا: الزمن عند الصوفيين:
تعد ممارسة التجربة الذاتية والدينية والمعرفية عند المتصوفة تجربة نفسية زمانية، لأنها تسمو
بالجسد إلى مستوى نفسي متحرر من الزمن الموضوعي والميقاتي والتاريخي، لينساب في
الزمن المطلق. إنه زمن الذات المتحررة من كل شيء - وإن اتكأت عليه - ففكرة الزمن
الصوفي إنما هي رحلة معاناة في المجاهدة والخلوة والذكر، لكشف حجاب الحس، والإطلاع
على عوالم من أمر الله. وهذا الزمن يغدو شعورًا يصدر عن تحقيق الذات في الزمن المطلق
. اللانهائي المجسِّد للذات الإلهية 3
الزمن عند الفلاسفة المحدثين :
ورثت أوروبا معظم فلسفتها من الإرث اليوناني عبر ترجمات وشروح العلماء العرب , وكان
منهج أرسطو في ماديته أقرب إلى عقول فلاسفتها الذين بدأوا بالتمرد على النظرة الأحادية
1 الجرجاني , علي بن محمد : التعريفات, تحقيق : إبراهيم الأبياري , ط 3 , مكتبة لبنان , بيروت , 1985 , ص 86
2 خوجة , لطف الله عبد العظيم : نقد ابن تيمية لآراء الفلاسفة والمتكلمين في بدء الخلق ( بحث), مجلة جامعة أم القرى
. لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابها , ع( 43 ) ذو الحجة 1428 ه , ص 234
3 جمعة،حسين: فكرة الزمن في الدراسات العربية (دراسة) ،مجلة التراث العربي فصلية- اتحاد الكتاب العرب
. دمشق، العددان 87،86 ، آب 2002 م، ص 13
10
للكنيسة , فاكتملت صورة الزمان المطلق والممثَّل بخط مستقيم على يد الفيلسوف البريطاني جون
. لوك عام 1690 , الذي لم يفرق بين الزمان والمكان من حيث امتدادهما المنتظم واللانهائي 1
ويبدو أن الفلاسفة الأوروبيين في نظرتهم للزمان لم يتمكنوا من التمييز بين الزمان المطلق
الإلهي الغيبي , وبين الزمان النسبي الدنيوي كما فعل سابقوهم من المتكلمين المسلمين , وكان
للتطور الفكري الوليد في عصر النهضة الأوروبية وما بعدها دور في تلوين الساحة الفكرية
بعدد واسع من المذاهب , وكان لمشكلة الزمن حظ وافر من هذا التلون 2. غير أن بداية طريق
العقل الحديث كانت حين نقل ديكارت الفلسفة من محور الوجود إلى محور المعرفة حيث أخذ
الجوهر الأ ِ رسْطي يتوارى شيئَا فشيئَا, حتى تلاشى نهائيا بنشأة المنطق الحديث على يد جورج
بول , ولم يعد الجوهر متصدرَا أعم أجناس الوجود كما كان شأنه عند أرسطو , بل أصبحت
مقولتا الزمان والمكان تحتلان هذه الصدارة , حيث أصبح الزمان والمكان القالب الذي يصب فيه
الوجود جملة وتفصيلا,وأصبح بفضلهما كونَا منتظمًا 3 .إن الزمان والمكان _ كما أشار "إيمانويل
1804 ) _ إطاران مفطوران في صلب العقل الإنساني الذي يقوم بعملية المعرفة - كانط" ( 1724
, وهما شكلان قبليان للحساسية , وشرطان للمعرفة مثلما هما إطاران للوجود 4.لكن وبالرغم من
ارتباط الزمان والمكان فإنهما ليسا البتة على قدم المساواة , وليسا متكافئين , بل كان الزمان
دائما – من وجهات النظر المختلفة _ متميزا عن المكان , ومتقدما عليه بوصفه مبدأ تنظيم ,
لولاه لكان المكان كتلة مُصْمَتة, فالمكان جسد الكون, والزمان عقله 5.ويذهب إيمانوئيل كانط إلى
أن الفارق بين الزمان والمكان هو أن الزمان يقوم على التوالي بمعنى التعاقب بين الأحداث ,
وفقَا للسببية , أما المكان فيقوم على التتالي بمعنى التجاور وفقَا لعلم الهندسة , ويضيف: أن
. المكان هو شكل تجربتنا الخارجية أما الزمان فهو شكل تجربتنا الداخلية 6
1 . ص 6 ,
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] : دعدوش , أحمد : مشكلة الزمن بين الفلسفة والعلم (بحث) , الموقع الإلكتروني
2 . المصدر نفسه : ص 6
3 . الخولي , يمنى طريف : مصدر سابق ص 10
4 . 15 , المصدر نفسه : ص 13
5 مطر , أميرة : دراسات في الفلسفة اليونانية ( التأمل , الزمان , الوعي )، دار الثقافة للطباعة والنشر – القاهرة
. 1980 ص 132
6 . المصدر نفسه : ص 132
11
وأبعاد الزمان ثلاثة : الحاضر والمستقبل والماضي , أما الحاضر , فيقول عنه (هيجل) إنه
يحمل في طياته المستقبل وهو نتيجة للماضي , وصادر عنه , كما سيصدر عنه المستقبل .
. ولهذا يعد الحاضر أهم لحظات الزمان 1
هكذا ننتهي إلى أن الزمان – دون المكان – هو الكائن الصائر السيال المنقضي دائمَا, ماض لم
يعد , ومستقبل لم يأت , وحاضر لا يكون أبدَا, ينفلت من بين فروج الأصابع , وهذه الطبيعة
الانزلاقية المتحركة , بل الدافقة الحارقة والمروعة للزمان هي التي جعلته يتحد بالوجود , ثم
. العدم , بالحضور, ثم الفناء 2
والزمان هو الذي ينبئ الإنسان بموته, وزواله, وعبثية كل جهوده , كما يبشره بانتظار الجديد
الوافد , الميلاد الذي سوف يحدث, والجديد الذي سوف يطرأ, مثلما أن الموت سوف يحدث ,
والطارئ سوف يبلى . إن الزمان هو الذي سوف يحمل أمل الإنسان ويأسه , مجده وتفاهة شأنه
إنه الكيان المُو ِ جد الفاني 3. وبالرجوع إلى المصطلح اليوناني لكلمة الزمان يتبين لنا أن كلمة
(كرونوس) تشير إلى الزمان, و كرونوس إله يخشى على مُلْكه من أبنائه , فيلتهمهم الواحد بعد
. الآخر , وكذلك الزمان هو الذي ينجب الكائنات , ثم هو الذي يقضي عليه 4
الزمن والعلم التجريبي:
في ذروة الخلاف الفلسفي حول طبيعة الزمن , كان العلماء التجريبيون يبذلون جهودَا جبارة
للكشف عن أسراره , وكان ذلك حين بدأ التطور في نظرة العلماء تجاهه مع رفضهم لقوانين
. الحركة المأخوذة عن اليونان ، ونشوء الفيزياء الحديثة 5
1 . بدوي , عبد الرحمن : الزمان الوجودي , دار الثقافة , بيروت – لبنان 1973 , ص 20
2 . الخولي , يمنى طريف : مصدر سابق ص 27
3 . المصدر السابق : ص 28
. 4 المصدرالسابق: ص 28
5 . دعدوش , أحمد : مصدر سابق , ص 7
12
وبتخلُّق الفيزياء الحديثة تخلَّ َ ق الزمن الفيزيائي الذي هو الزمن الطبيعي في صورته العلمية التي
هي أشد صورة يمتلكها العقل دقة وإحكامَا . ولما كان عالم الفيزياء مكوَّنًا من الزمان والمكان
. والمادة كان ثمة تواز وتلازم بين الفيزياء والزمان 1
وقد ارتهن الزمن الفيزيائي بالخروج عن الفرض البطلمي الذي كان سائدَا في العصور الوسطى
والقائل بأن الأرض هي مركز الكون , وكان ذلك حين جاء الفلكي البولندي "كوبر نيكس "
عام 1507 وأطلق مقولته بأن الشمس هي التي في مركز الكون وليس الأرض , فأحرز بذلك
. الخطوة الأولى في طريق العلم الصاعد 2
1642 ) الذي مدَّ نطاق القوانين الفيزيائية من فلك - وكانت الخطوة التالية مع "جاليليو" ( 1562
. السموات إلى الأرض , ووضع قوانين رياضية دقيقة تحكم الحركة على سطحها 3
ثم جاء إسحق نيوتن ووضع قوانينه الثلاثة التي تحكم كل حركة في هذا الكون , و نادى بفكرة
المكان المطلق والزمان المطلق المستقلَّين عن كل شيء , وََقسَمَ الزمان إلى زمانين : مطلق ,
ونسبي , أما الزمان المطلق فهو الزمن الحقيقي الرياضي , وهو قائم بذاته مستقل بطبيعته في
غير نسبة إلى أي شيء خارجي , في حين إن الزمان النسبي ظاهر عام , وهو مقياس حسي
خارجي لأية مدة بواسطة الحركة وهو الزمان المستعمل في الحياة العادية على هيئة ساعات
وأيام وشهور وأعوام 4. غير أن أفكار نيوتن حول الزمان المطلق أثارت نقاشًا وسجا ً لا لا
ينتهي, لأنه كيان غاية في التجريد والغموض والإلغاز, ولا يقع في نطاق الخبرة الحسية
التجريبية، الأمر الذي أدى إلى التوائها وتطور فكرة الزمن النسبي على يد العالم الشهير
"آينشتاين" الذي وضع نظريته المعروفة (النسبية), لتحرز هذه النظرية تقدمًا جوهريًا, وتلبي
ضرورة للتطور العلمي مع مطلع القرن العشرين, وذلك حين جعلت هذه النظرية الزمان بعدَا
1 . الخولي , يمنى طريف : مصدر سابق ص , 116
2 المصدر نفسه : ص 118
3 المصدر نفسه : ص 120
4 . توفيق , إميل : الزمن بين العلم والفلسفة والأدب , ط 1 , دار الشروق – القاهرة , ص 1982 , ص 84
13
رابعَا للأبعاد الثلاثة (الطول , العرض , الارتفاع) فحصل متصل الفضاء الزماني _المكاني
. (الزَمَكاني) الرباعي الأبعاد محل الأثير 1
قياس الزمن:
إن وسائل قياس الزمن ُتعِّين فترات زمنية, وقد صُمِّمتْ آلات القياس (الساعات) على أخذ
قراءات مباشرة للنقاط الزمنية, وهذه الآلات تقيس بدقة الفترة الزمنية ابتداء من النقطة الزمنية
. الثابتة, وحتى النقطة الزمنية الحاضرة 2
ولقد اهتم اينشتاين بأن يضع قاعدة علمية كشفية, فمن ناحية البحث العلمي يرى أن الطريق
الوحيد لتناول الزمن إنما يكون عن طريق الأعداد التي ترتبط بقياسه, وهذه الأعداد مرتبطة
. - بالضرورة - بآلة القٍياس , وهو ما يسمى بالقياس الإجرائي للزمن 3
وبما ان الزمن يرتبط بالحركة ارتباطا وثيقا, والحركة تظهر من خلال السرعة, لذلك يجب أن
نبحث في مقياس السرعة, مع ذكر اتجاهها , فالسرعة (س) لجسم ما متحركا في خط مستقيم من
النقطة(أ) إلى النقطة (ب) يُحْصَل عليها من قياس المسافة (أب), وقياس الزمن الذي يستغرق في
قطع طريق المسافة , ثم نقسم المسافة على الزمن, فننتج السرعة 4 والعكس صحيح, إذ لو قسمنا
المسافة على السرعة فسينتج الزمن.
الزمن الحيوي (البيولوجي):
يعرفه العلماء بأنه الزمن الذي يبدأ مع الكائن منذ لحظة َت َ خلُّقهِ إلى ولادته , وصو ً لا إلى نهايته ,
أي ما يمكن أن نسميه بالزمن النمائي للكائن الحي الذي يتحكم بحالات نموه وتطوره البدني
. ضمن نسق نمائي زماني محدد 5
1 . 133 , 131 , الخولي, يمنى طريف : مصدر سابق , ص 126
2 . دعدوش, أحمد: مصدر سابق : ص 16
3 . المصدر نفسه : ص 36
. 4 المصدر نفسه : ص 37
5 . إدلبي , بهيجة : الزمن رسالة الكائن إلى ذاته , دار عبد المنعم ناشرون , حلب 2005 , ص 6
14
وتؤدي الكائنات الحية _ والإنسان في مقدمتها_ وظائفها الحيوية (البيولوجية) وفق نظام زمني ,
. أو وفق دوريات زمنية , وذلك فيما يسمى ب (إيقاعية الزمن) 1
ويتفق علماء الأحياء اليوم على أن الكائنات الحية باختلاف أنواعها تحتوي على جهاز حيوي
زماني , يتم من خلاله ضبط الكثير من وظائف الجسم قياسًا إلى الزمن.
ويمكن للمرء اكتشاف أثر هذا الجهاز من خلال اعتياد جسمه على عدد من الظواهر الحيوية
الجسمية , كحلول النوم في وقت معين , أو نبض القلب , أو إفراز الغدد . ويمكن للشخص
العادي اكتشاف مدى تأثر الجسم باختلاف الوقت على مدار اليوم , إذ يسهل على الجميع تبين
النشاط الذي يشعر به الجسم في ساعات الصباح الأولى والتي تعود بالدرجة الأولى إلى إفراز
كل من هرمون الكورتيزون الذي تفرزه الغدة الكظرية, وهرمون الأدرينالين الذي يفرزه الجهاز
العصبي اللاإرادي, مما يؤدي إلى ارتفاع حرارة الجسم وزيادة سرعة دقات القلب , وبالتالي
دعم الجهاز المناعي . أما في منتصف النهار فيبدأ معدل السكر في الدم بالانخفاض وتهبط
نسبة الأدرينالين إلى أدنى مستوياتها مما يجعل الجسم في حاجة ملحة للغذاء والراحة , ثم يعود
هرمون الأدرينالين إلى أعلى مستوياته في فترة المساء , الأمر الذي يجعل المرء في أفضل
حالات نشاطه الجسدي , مع فتور نسبي في القدرات العقلية مما كانت عليه في ساعات الصباح
. الأولى , وأخيرا يهبط إفراز الهرمون مرة أخرى , ويبدأ الجسم بالخمول استعدادًا للنوم 2
ويذكر العلماء أن هناك خمسين وظيفة عضوية في جسم الإنسان , تؤدَّى وفق نظام زمني 3, ولقد
لفت نظر العلماء ظاهرة هامة من ظواهر التكيف مع المؤثرات البيئية , تسود بعض الكائنات
. هي ظاهرة التوقيت, التي تسمح للكائن أن يؤدي وظائفه في أوقات معينة وبدوريات رتيبة 4
فالكثير من المظاهر, والأنشطة, ووظائف الأعضاء لدى الحشرات يحكمها الضبط الزمني
كعمليات التغذية , واللقاءات الجنسية , ووضع البيض وفقسه , وتكوين العذارى , وخروجها من
1 . توفيق ، إميل : مصدر سابق , ص 11
2 . دعدوش ، أحمد : مصدر سابق ، ص 11
3 . توفيق ، إميل: مصدر سابق , ص 109
. 4 المصدرالسابق : ص 109
15
شرانقها , وفي كل هذه النشاطات هناك تحديد لوقت وقوعها, سواء بالليل أو بالنهار 1. ولا يقف
الأمر عند الحشرات , فهجرة الطيور تقتضي أن تكون هناك إيقاعات يومية, وإيقاعات سنوية .
وقد أجرى بعض العلماء العديد من التجارب على بعض طيور أوروبا المهاجرة إلى الجنوب,
وخرجوا بنتيجة هامة وهي : أن الطيور تهتدي بالنجوم 2.ولقد أشار القران الكريم إلى هذه
الحقائق في قوله سبحانه : چ ڄ ڄ ڄ ڃ ڃ ڃ ڃ چ چ چ چ ڇڇ ڇ ڇ ڍ ڍ ڌ ڌڎ ڎ
( ڈ ڈ ژ ژ چ (الأنعام: 38
وكذلك الحال بالنسبة للنباتات , فالملاحظ أن الأوراق أو الأزهار تتكون فقط في فصول معينة,
كما أن الأزهار ُتَفتِّ ِ ح أكمامها أو تغلقها في أوقات معينة من النهار . هذه الظواهر تجيء استجابة
للتغيرات الحادثة في البيئة , ولكن الكثير منها لها أساس داخلي التكوين , ولذلك تسمى بالدورة
الداخلية , وتضمنت تذبذبات َتمدُّنا بما يعرف بالتنظيم الزمني للأنشطة الفسيولوجية والسلوكية
. لمعظم الكائنات الحية 3
الزمن النفسي (السيكولوجي):
عرفه بعض العلماء بأنه إحساس الكائن المتغير تجاه الأشياء , وعلاقة هذا الكائن مع الكائنات
الأخرى , تبعًا للحالات التي يمر بها , وبالتالي فإن لكل إنسان زمنه السيكولوجي الخاص به ,
وهو ما نسميه بالزمن الداخلي , فالإنسان يدور حول نفسه بالزمن الداخلي , ويدور خارج الذات
. ضمن سلسلة ميقاتية , فيما يسمى بالدورات العمرية 4
وبعيدَا عن تشعب التعريفات , فقد استخدمه الباحثون للدلالة على ذلك الإحساس الذاتي ,
. والشعور بمرور الزمن , أو بعدم مروره , مع تقدير قدره انطلاقًا من هذا الإحساس 5
وقد أثبتت أحدث الدراسات الزمنية أن الوقت لا يمر عندما نكون قلقين , ويمر بسرعة هائلة في
. ساعات الفرح والسرور والنعيم , وهذا المعنى يعرفه الناس بالمراس والإحساس 6
1 . المصدر نفسه : ص 118
2 . المصدر نفسه : ص 119
3 . توفيق ، إميل: مصدر سابق : ص 110
4 . إدلبي ,بهيجة , مصدر سابق : ص 6
5 باباعمي , محمد بن موسى : مفهوم الزمن في القرآن الكريم, ط 1, دار الغرب الإسلامي , بيروت 2000 , ص 281
6 . المصدر نفسه : ص 284
إعداد
محمود يوسف عبد القادر عوض
إشراف
أ.د.يحيى عبد الرؤوف جبر
قدمت هذه الأطروحة استكما ً لا لمتطلبات درجة الماجستير في اللغة العربية بكلية الدراسات
العليا في جامعة النجاح الوطنية في نابلس، فلسطين.
2009