الفقه الاسلامي تعريفه وتطوره وماكنته الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين القائل ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد فهذا بحث ليس بالطويل الممل ولا بالقصير المخل. حول تعريف الفقه وتطوره ومكانته، لا يدعي اقتناص الشوارد ولا قيد الأوابد، لكنه يكتفي بإيضاح بعض المقاصد.
فأقول وبالله التوفيق، وهو الهادي بمنه إلى سواء الطريق الفقه لغة: هو مصدر من فقه بكسر عين الفعل في الماضي يفقه بفتح عينه في المضارع، وفيه لغة أخرى هي فقه بالضم في الماضي والمضارع وهي تشير إلى رسوخ ملكة الفقه في النفس حتى تصير كالطبع والسجية[1].
وزاد الحافظ بن حجر في فتح الباري لغة ثالثة هي: فقه بالفتح إذا سبق في الفهم[2]، وهذه اللغة لم تذكرها المعاجم المشهورة فعلى هذا تكون فقه مثلثة عين الماضي، مثناة عين المضارع إذ ليس في مضارعها إلا يفقه بالفتح ويفقه بالضم.
والفقه مصدر غير مقيس، وإنما أصله السماع، ويرجع في أصله إلى معنيين بالنظر إلى اختلاف ((تعبير علماء اللغة)) في التفسير الأوليِّ لمادة فقه.
أولهما: الفهم والفطنة والإدراك والعلم. وهذا الأصل اقتصرت عليه أكثر المعاجم كالجوهري في صحاحه والمجد في قاموسه، والفيومي في مصباحه.
وهذا الأصل هو الذي عليه أكثر الأئمة الأوائل، ولنذكر مثالاً واحداً نكتفي به من كلامهم:
فيقول أحمد بن فارس المتوفي سنة 395هـ. "فقه الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح يدل على إدراك الشيء والعلم به، تقول فقهت الحديث أفقهه، وكل علم بشيء فهو فقه، يقولون لا يفقه ولا ينقه، ثم اختص بذلك علم الشريعة فقيل لكل عالم بالحلال والحرام فقيه، وأفقهتك الشيء إذا بينته لك"[3].
ثانيهما: أن أصل معناه يرجع إلى الشق والفتح، وهذا ما ذهب إليه الزمخشري من الفائق في غريب الحديث وأبو السعادات ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث أيضاً[4].
ونكتفي بنقل كلام الزمخشري هنا: "سلمان رضي الله عنه نزل على نبطية بالعراق، فقال لها هل هنا مكان نظيف أصلي فيه، فقالت: طهر قلبك وصل حيث شئت، فقال سلمان: فقهت، أي فطنت وارتأت الصواب"[5].
والفقه حقيقة الشق والفتح، والفقيه العالم الذي يشق الأحكام، ويفتش عن حقائقها، ويفتح ما استغلق منها، وما وقعت من العربية فاؤه فاء عينه قافاً جله دال على هذا المعنى نحو قولهم: تفقاً شحماً، وفقح الجرو وفقر للغسيل وفقصت البيضة، عن الفرخ، وتفقعت الأرض عن الطرثوث[6].
قلت: وما ذهب إليه الزمخشري وأبو السعادات من أن الفقه في أصل اللغة يرجع إلى الشق والفتح ليس ظاهراً.
أولاً: لمخالفته لكلام الأئمة والأرسخ قدماً والأسبق زمناً.
ثانياً: اعتماد الزمخشري على القياس عن طريق ما يسمَّى بالاشتقاق الأكبر وهو ما فيه مناسبة في بعض الأحرف الأصلية فقط.
يعتبر ضعيفاً وغير مقيس، قال أبو حيان: "لم يقل بالاشتقاق الأكبر من النحاة إلا أبو الفتح وكان ابن الباذش يأنس به[7]".
وذكر ذلك صاحب المراقي عند قوله:
الجذب والجبذ كبير وبري للأكبر الثلم وثلبا من درى
وزيادة على هذا فإن مذهب الجمهور هو: أن اللغة لا تثبت بالقياس، وهو الراجح عند ابن الحاجب إذ اللغة تقل محض[8].
ونكتفي بذكر هذين الاتجاهين في التعريف اللغوي للفقه.
ولكن لابد من الإشارة إلى أن بعض علماء الأصول حاول التوسع في المعنى اللغوي فقال القرافي: إن الفقه على الشعر والطب، وتبعه بعض علماء الأصول فقالوا: الفقه لغة الفهم والشعر والطب[9].
ولعل هذا الكلام من باب المجاز اللغوي، لأن الشعر والطب يحتاجان إلى فهم وفطنة فهو تعبير بالملزوم عن اللازم. فالعرب ما كانت تسمى الفقه طباً، وإن سمع عنه فحل طب بالضراب أي حاذق، في معرفة الحامل من الحائل، أي أنه يعرف الناقة ذات الضبع وهي التي تشتهي الفحل، ولا يراد به الطب الذي هو علاج الجسم أو النفس.
وذهب العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين إلى أن الفقه أخص من الفهم لأن الفقه هو فهم مراد المتكلم من كلامه وهو قدر زائد على مجرد فهم ما وضع له اللفظ[10].
أما القرافيُّ فنقل عن أبي إسحق الشيرازي أنه إدراك للأشياء الخفية، فنقول: فقهت كلامك ولا تقول فقهت السماء والأرض[11].
وهذه الخلاصة ما ذكره العلماء للمعنى اللغوي لكلمة الفقه.
مقدمة في تطور كلمة الفقه قبل الحديث عن اصطلاح الأصوليين
كلمة الفقه كانت معروفة في الجاهلية، بمعنى الفهم لا بمعنى العلم المخصوص، وما كانوا يستعملون لفظ فقيه أو عالم فيما استعملا فيه بعد الإسلام.
هذا ما يقوله محمد بن الحسن الثعالبي الفاسي (في كتابه) الفطر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي...
ولكني أرى أنه لم يكن شايعاً بينهم بالمعنى المخصوص وإنما الذي سجل عن العرب قولهم – كما رأينا سابقاً – جمل فقيه أي فطين بأحوال الشوق، لأن اللغة العربية كانت تميل إلى التعبير عن المحسوسات قبل النقلة التي شهدتها بمجيء الإسلام ونزول القرآن الكريم، فلم يكونوا يعرفون مثلاً الفاسق كما نقله الأصبهاني عن ابن الأعرابي ونص كلام ابن الأعرابي على ما نقله الجوهريُّ.
لم يسمع الفاسق في وصف الإنسان في كلام العرب، وإنما قالوا:
فسقت الرطبة خرجت عن قشرها.
قال ابن الأعرابي: "لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا شعرهم فاسق"...
نقل شيخ مرتضى: عن بعض فقهاء اللغة أن الفسق من الألفاظ الإسلامية لا يعرف إطلاقها على هذا المعنى قبل الإسلام، وإن كان أصل معناها، الخروج، فهي من الحقائق الشرعية التي صارت في معناها حقيقة عرفية في الشرع، وقد بسطه – الخفاجي في العناية[12] ومثل هذا كثير فإن كلمة الأدب ما كانت شائعة قبل الإسلام وإنما كانت العربُ تعرف الآدب الذي يدعو إلى المأدبة وهي طعام يصنع للجماعة، قال طرفه:...
نحن في المشتاة ندعو الجفلى لا ترى الآدب فينا ينتقر
والجفلى هي الدعوة العامة، والنقرى الدعوة الخاصة..
ثم تطورت كلمة الأدب إلى أن أصبحت تعني الأخلاق الفاضلة وأصبحت بعد ذلك تطلق على علم خاص.
قال: الخفاجي في العناية نقلاً عن الجوالقيِّ في شرح أدب الكاتب: "الأدب في اللغة حسن الأخلاق وفعل المكارم، وإطلاقه على علوم العربية مولد حديث في الإسلام"[13]
والفقه من هذه الألفاظ التي تطورت تطوراً ملموساً منذ ظهور الإسلام ففي الصدر الأول استعملت كلمة الفقه في النصوص الشرعية لمعنيين:
أولُهما: الفهم الذي ينصف به الشخص.
وثانيهما: النصوص الشَرْعِيَّة.
فمن الأول قوله تعالى: {قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول}[14].
ومن {ولكن لا تفقهون تسبيحهم}[15]...
ومنه {أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون}[16].
ومن السنة: قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عباس: ((اللهم فقهه في الدين..)) الحديث، متفق عليه[17].
فهو محتمل للمعنيين أي معنى الفهم ومعنى العلم بنصُوص الشريعة...
ومن المعنى الأول قول علي رضي الله عنه لابن الكوَّاء وقد سأله عن قوله تعالى: {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا} قال له: ويحك اسأل تفقهاً ولا تسأل تعنتاً[18]...
ثانيهما: النصوص الشرعيَّة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه))[19]، وهو جزءٌ من حديث أخرجه أحمد في المسند والترمذي وقال صحيح.
وابن حبان وصححه، والحاكم وصححه..
ومنه قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((تفقهوا قبل أن تسوَّدوا))[20].
قال أبو عبدالله – البخاري –: "وبعد أن تسودوا وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد كبر سنهم".
بعد هذه المقدمة القصيرة عن معنى الفقه في القرآن والسنة، نستنتج أن الفقه بمعنى المعلوم، كانت تغطى علوم الدين كلها من عقيدة وأحكام عبادات ومعاملات، وحدود، كما تغطى أدلتها من كتاب وسنة، كل ذلك يعتبر فقهاً، لأن متعلقه الدين، والدين كما هو معروف إذا أطلق فإنه يدل على الإسلام والإيمان والإحسان، ومع ذلك فنحن نلاحظ استعمال كلمة الفقه، في بعض الآثار الواردة عن بعض السلف في عصر الصحابة، بجانب الكتاب والسنة، مما يشير إلى شيء خاص وليس حَتْماً منافياً ولكنه على كل حال زائد على حرفية النص، فمن ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما: أفضل الجهاد من بنى مسجداً يعلم فيه القرآن والفقه والسنة[21]. رواه شريك عن ليث ابن سليم بن يحيى ابن أبي كثير عن علي الأزدي، قال: أردت الجهاد فأتيت ابن عباس فقال لي: ((ألا أدلك على ما هو خير تأتي مسجداً فتقرأ فيه القرآن وتعلم فيه الفقه))[22].
وهذا يدل على أن الفقه بدأ في تمثيل مصطلح خاص متميز في أيام الصحابة، وذلك راجع إلى ظهور مسائل اجتهادية، كمسألة ميراث الجد مع الأخوة، ومسألة أراضي العراق وغيرها من أرض الخراج ومسألة درء الحد عمن ولدت لستة أشهر، وغيرها من المسائل التي تستدعي الاجتهاد وأعمال النظر، وظهور هذه المسائل كان نتيجة لتلاحق التطورات في المجتمع الإسلامي الذي اتسعت رقعته، وتنوعت عناصر مكوناته، وكان القرآن الكريم الذي جمع جمعاً أولياً على عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق وجمعاً نهائياً على عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وعن الخلفاء الراشدين جميعاً.. والذي جمع الناس على مصحف واحد ووزعه على الآفاق وألغى ما سواه وكان ذلك بمحضر الملأ من الصحابة ومشورتهم.
وكان العامل الأساسي في المحافظة على وحدة العقيدة والشريعة جمع الناس على مصحف واحد...
إلاّ أن الصحابة وهم حملة السنة قد تفرقوا في الأقطار والأصقاع كل واحد يحمل معه من السنة ما وعي، ليفتي ويقضي حسب ما سمع وبقدر ما فهم فاختلفت بعض الآراء في المسائل الفقهية، إلا أنهم حفظوا من الاختلاف في مسائل العقيدة. فبرزت الحاجة للنظر في المصدرالثاني من مصادر الشريعة وهو السنة، فكان أول جمع لها بأمر أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز في نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني حيث كتب إلى عامله في المدينة المنورة، أن يجمع السنة ثم تبارى العلماء في جمع الحديث وتصحيحه وتنقيحه.
فمن أوائل الكتب التي وصلت من السلف إلى الخلف صحيفة همام ابن منبه المتوفي سنة 132هـ ومسند أبي حنيفة ت150هـ وموطأ مالك بن أنس سنة 179هـ ومسند أبي داود الطيالسي المتوفي 204هـ. ومسند الشافعي المتوفي 204هـ وهكذا توالت كتب الحديث من جوامع وسنن ومسانيد ومستخرجات ومستدركات.
وفي نفس الوقت تقريباً، اهتم العلماء باستخراج المسائل الفقهية وتجريدها بعد تحرير الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد، فتكونت مدارس فقهية في الحجاز والعراق ومصر وكثرت الآراء واتسعت القضايا وتباينت الفتوى، وظهرت مسائل استنباطية معزوة إلى أصحابها الذين لم يعودوا مجرد مفتين، وإنما مؤسسو مدارس يشار إليهم بالبنان، نظراً لرسوخ أقدامهم في العلم ودقة مداركهم في الفهم، فألفت المدونات، كمدونة ابن القاسم التي نقلها عن مالك، وكتاب الأم للشافعي، وغيرهما من الكتب التي تعتني بالمسائل الفقهية الاستنباطية، وكان الأمر يقتضي وضع قواعد، ومناهج ليسلكها السالكون في التعامل مع النصوص، واستنباط المسائل منها.
وسميت هذه المسائل الجديدة فقهاً، وأخذت القواعد التي تحكم كيفية الاستنباط والتعامل مع النصوص اسم أصول الفقه.
هذه الأطوار التي مرت بها الشريعة من عهد الصحابة الذين جمعوا القرآن الكريم وجمعوا الناس على مصحف واحد، وعهد التابعين الذين بدأوا مسيرة جمع السنة، والذين من بعدهم من الأئمة الذين اجتهدوا في استخراج المسائل واستنباطها، كل ذلك قد أثر في تطور معنى كلمة فقه، وبدون شك فإن هذا قد خلف ظلالاً على تعامل العلماء من بعدهم، مع تعريف هذه الكلمة وتحديد مفهومها الدقيق، وذلك ما سنراه بعد هذه المقدمة.
تعريف الأصوليين للفقه
اختلف الأصوليون في تعريف الفقه، على ضوء ما ذكرنا في مقدمة هذا البحث:
1 - فذهب بعضهم إلى أن الفقه مرادف للعلم بالشريعة أي أنه شامل للعلم بالأحكام الثابتة بالنصوص القطعية، أو تلك الثابتة بالطرق الظنية.
2 - وذهب بعضهم إلى أنه الثابت بالنصوص القطعية فقط.
3 - وذهب الجمعور إلى أنه العلم بالأحكام المستفادة عن طريق الاستنباط والاجتهاد.
4 - وذهب فريق رابع إلى أنه: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب عن طريق الأدلة التفصيلية.
فهذه أربع طرق يمثل الأولى منها – وهي التي ترى أنه شامل للأحكام القطعية والظنية، من العلماء:
البزدوري الحنفي، وقد نقل ابن عباس في رد المحتار عن شرح التحرير أنّ التعميم قد مضى غير واحد من المتأخرين على أنه الحق، وعليه عمل السلف والخلف[23].
أما المذهب الذي يقول بأنه الثابت بالنصوص القطعية فمن الذاهبين إليه إمام الحرمين في البرهان، حيث يقول: "فإن قيل في الفقه؟ قلنا: هو في اصطلاح الشريعة: العلم بأحكام التكليف. فإن قيل معظم متضمن ما سئل الشريعة ظنون. قلنا: ليست الظنون فقهاً وإنما الفقه العلم بوجوب العمل عند قيام الظنون".
وذكر بعد ذلك قوله: قد ذكرنا أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية.
وما ذكره إمام الحرمين[24] ذكر مثله ابن الهمام الحنفي في التحرير.. بقوله: إن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية القطعية لا الظنية. وأن الظن ليس من الفقه، والأحكام المظنونة ليست مما يسمى العلم بها فقهاً[25].
أما المذهب الثالث: فقد قال به أيضاً كثير من العلماء، حيث تخصص الفقه بالمسائل المظنونة. قال علاء الدين شمس النظر الحنفي – 539هـ في كتابه المسمى ميزان الأصول في نتائج العقول: "وأما العلم السمعى نوعان: أحدهما ثابن بطريق القطع واليقين، وهو ما ثبت بالنص المفَسَّر من الكتاب والخبر المتواتر والمشهور والإجماع.
والثاني: ثابت بطريق الظاهر بناء على غالب الرأي وأكبر الظن، وهو ما ثبت بظواهر الكتاب والسنة المتواترة، وما ثبت بخبر الواحد والقياس الشرعي. وهذا النوع بقسميه يسمى علم الشرائع والأحكام، ويسمى علم الفقه في عرف الفقهاء وأهل الكلام، وإن كان اسم الفقه لغة وحقيقة لا اختصاص له بهذا النوع من العلم بل هو إسم للوقوف على المعنى الخفي الذي يتعلق به علم يحتاج فيه إلى النظر والاستدلال مطلقاً، كعلم النحو واللغة والطب ونحوهما، يقال فلان فقيه في النحو والطب واللغة إذا كان قادراً على الاستنباط والاستخراج في ذلك"[26].
فيفهم من هذا الكلام أن الفقه إنما يطلق على العلم بالمسائل الظنية لأنه إنما أطلقه على النوع الثاني بقسميه وهما:
1 - ما ثبت عن طريق الظواهر وغالب الرأي والظن من جهة.
2 - أو ما ثبت عن طريق خبر الآحاد والقياس من جهة أخرى – فهذا بيان كلامه.
وأكثر علماء الأصول لا يبتعدون كثيراً عن هذا التعريف الأخير، فإنهم يعرفون الفقه بأنه: معرفة الأحكام الشرعية العملية، التي طريقها الاجتهاد كما قال: الشيرازي في اللمع، فيخرج العلم بالذوات والعلم بالأحكام العقلية والحسية والوضعية كالحساب والهندسة والنحو والصرف[27] إلى آخره.
وفي شرح أحمد بن قاسم العبَّادي الشافعي، على ورقات إمام الحرمين، ممزوجاً بكلام المؤلف وتعليق جلال الدين المحلي ما يلي: "الفقه معرفة الأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد كالعلم بأن النية في الوضوء واجبة، وأن الوتر مندوب، وأن النية من الليل شرط في صحة صوم رمضان، وأن القتل بمثقل يوجب القصاص ونحو ذلك من مسائل الخلاف، ثم أنهم اشترطوا أن يكون العلم حاصلاً عن طريق الاجتهاد للمنصف به، ليخرج علم المقلد بهذه المسائل، وكذلك ليخرج العلم بضروبات الدين كوجوب الصلوات الخمس، وحرمة الفاحشة فهذه لا تسمى فقهاً على حد هذا التعريف[28]، هامش إرشاد الفحول شرح أحمد بن قاسم لورقات إمام الحرمين".
أما المذهب الرابع: فلم يفصل بين قطع ولا ظن، ولم يشترط الاجتهاد بالنص، إلا أنه قال: إن العلم بهذه الأحكام الشرعية يجب أن يكون مكتسباً من أدلتها التفصيلية، وهذا ما ذهب إلي السبكي في جمع الجوامع.
ونظمه سيدي عبدالله بن الحاج ابراهيم الشنقيطي.
في نظمه المسمى بمراقي السعود:
الفقه هو العلم بالأحكام بالشرع والفعل نماها النامي
أدلة التفصيل منها مكتسب والعلم بالصلاح فيما قد ذهب
قال في شرحه نشر البنود: "والفقه اصطلاحاً هو العلم بجميع الأحكام الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية والمراد بالأحكام النسب التامة التي هي ثبوت أمر لآخر إيجاباً أو سلباً احترازاً عن العلم بالذوات والصفات والأفعال"[29].
وهذا العلامة الزركشي ينقل في كتابه المنثور في القواعد عن جلة من علماء الأصول تعريف الفقه فيقول: فصل:
قال القاضي حسين: "الفقه افتتاح علم الحوادث على الإنسان أو افتتاح شعب أحكام الحوادث على الإنسان".
حكاه عنه البغوي في تعليقه....
وقال ابن سراقة في كتابه في الأصول: "حقيقة الفقه عندي الاستنباط.. قال تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم}".
بعد الطرائق الأربع في تعريف الفقه عند الأصوليين، والقاسم المشترك بين هذه التعريفات هو أنه نقلت الفقه عن أصله اللغوي وهو الفهم، إلى معنى مجاور هو العلم الذي ليس بمعنى المعلوم، وإنما بمعناه المصدري الذي هو حصول العلم أو الملكة الراسخة في النفس.
فالفقه في هذه التعريفات هو علم الإنسان بالشيء إلاّ أنَّ بعض العلماء الآخرين وإن كانو قد أخذوا بعض الآراء السالفة بعين الاعتبار إلا أنهم قدموا تعريفات أخرى تنظر إلى الفقه كعلم بمعنى شيء مستقل عن كونه صفة للمجتهد.
فمن هؤلاء الإمام الغزالي والزركشي من الشافعية، فالغزالي اهتم به من حيث علاقته بتزكية النفوس، فخصصه قائلاً: في الألفاظ التي صرفت عن أصلها الذي كانت عليه عند السلف الصالح: "اللفظ الأول الفقه، فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغربية في الفتوى، والوقوف على دقائق علمها واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها، فمن كان أشد تعمقاً وأكثر اشتغالاً بها يقال: هو الأفقه، ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول يطلق على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب"[30]..
وكما يلاحظ فإن أبا حامد رحمه الله تعالى جعل الفقه علماً خاصاً بغض النظر عن المتصف به، خلافاًً لمصطلح الأصوليين، إلا أنه وقع في التخصيص بدلاً من أن يتركه على عمومه، الذي يدل عليه إضافته للدين وهو كل ما يطلب من العباد (من إسلام وإيمان واحسان كما ورد في الحديث الصحيح، هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم....
وكما يدل عليه قوله تعالى {فأقم وجهك للدين....ْ}، الآية.
أما الزركشي، فذكر تعريفات عدة بعضها يقارب تعريف الأصوليين، وبعضها يجانبه، ولأهمية كلامه ننقل أكثره ونصه: في (أ)، ص17.
وكذلك قال السمعاني في القواطع: "هو استنباط حكم المشكل من الواضح".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رب حامل فقه غير فقيه)) أي غير مستنبط، ومعناه: أنه يحمل الرواية من غير أن يكون له استدلال واستنباط منها.
قال: "وما أشبه الفقيه إلا بغواص في بحر در كلما غاص في بحر فطنته استخرج دراً وغيره يستخرج أجراً".
ومن المحاسن قول الإمام أبي حنيفة – رحمه الله – الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها.
وقال الإمام في الغياثي: "أهم المطالب في الفقه التدرب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، وهو الذي يسمى فقه النفس، وهو أنفس صفات علماء الشريعة".
واعلم أن الفقه أنواع:
أحدهما: معرفة أحكام الحوادث نصاً واستنباطاً، وعليه صنف الأصحاب تعاليقهم المبسوطة على مختصر المزنى.
والثاني: معرفة الجمع والفرق، وعليه جل مناظرات السلف حتى قال بعضهم: الفقه فرق وجمع، ومن أحسن ما وصف فيه كتاب الشيخ أبي محمد الجويني، وأبي الخير بن جماعة المقدسي، وكل فرق بين مسألتين مؤثر ما لم يغلب على الظن أن الجامع أظهر.
قال الإمام رحمه الله: "ولا يكتفي بالخيالات في الفروق، بل وإن كان اجتماع مسألتين أظهر في الظن من افتراقهما – وجب القضاء باجتماعهما، وأن انقدح فرق علي بعد".
إلى أن قال: فائدة:
كان بعض المشايخ يقول: "العلوم ثلاثة علم نضج وما احترق وهو علم الأصول والنحو، وعلم لا نضج ولا احترق وهو علم البيان والتفسير، وعلم نضج واحترق وهو علم الفقه والحديث".
وكان الشيخ صدر الدين بن المرحل – رحمه الله – يقول: "ينبغي للإنسان أن يكون في الفقه قيماً، وفي الأصول راجحاً، وفي بقية العلوم مشاركاً"[31].
((تطور الفقه))
من المعلوم أن الأصل الأول للفقه هو القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}... {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}. والأصل الثاني هو السنة النبوية وهي مجموعة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، فهذان الأصلان لا خلاف فيهما[32].
وكل الأصول الأخرى راجعة إليهما من اجماع وقياس واستدلال – وهو كما يقول علماء الأصول دليل ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس كاستصحاب الحال، وشرع من قبلنا والاستحسان عند الحنفية والمالكية والمصالح المرسلة[33].
وأنواع هذا الدليل ليست موضع اتفاق بين العلماء، ذكرنا هذه المصادر كتوطئة لتطور الفقه، لأن التطور الزمني للفقه كان نتيجة لتسلسل ظهور هذه الأدلة وبروزها، والمكانة التي أخذتها في التشريع.
فالطور الأول: – هو طور نزول الوحي وحياة النبي صلى الله عليه وسلم وهو طور تأسيس الشريعة، وكمال العقيدة، واقرار أصول الحلال والحرام {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي...} الآية.
((وإن الحلال بين وإن الحرام بين...)) الحديث.
فهذا الطور من مبعث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وفاته، وهي فترة الوحي أي نزول القرآن الكريم، وتلقى السنة المطهرة عنه صلى الله عليه وسلم. ثم جاء عصر الصحابة رضي الله عنهم الذي امتد ما يناهز القرن، وانتشر الإسلام، وتفرق الصحابة في شتى الأقطار والأصقاع ينشرون الإسلام بين أقوام مختلف الأعراق والأعراف والطباع فاعترضتهم قضايا فقهية بعضها يمس أنظمة الدولة الإدارية والمالية كقضايا الأراضي المفتوحة – والتي أصبحت فيما بعد خراجية – ومشكلات دون ذلك كميراث الجد مع الأخوة.
إلا أن مركز الدولة واهتمام الخليفة شخصياً بالقضاء والفتوى سهل الإجماع في كثير من المسائل، حيث يجمع الصحابة عند النازلة فيستشيرهم فيجمعون على أمر، فيصبح إجماعهم امراً لا معقب له وحجة على القرون من بعدهم.
وقد لا يجمعون فيظل باب الإجتهاد مفتوحاً في وجه من بعدهم، وبروز أهمية الإجماع في التشريع يُمثل الطور الثاني من أطوار الفقه وما كان لهذا التطور أن يحدث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الإجماع في عهده غير ممكن لنزول الوحي فالحجة في حياته صلى الله عليه وسلم هي القرآن والسنة، فالمرجع الوحيد في النوازل هو النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي الطور الثاني الذي يمثله عهد الصحابة رضوان الله عليهم برز القياس وظهرت بوادره الأولى في قياس الشارب على القاذف عند من أثبته. إلى غير ذلك من المسائل التي احتاج الصحابة فيها إلى إعمال أوجه الرأي، وتقليب أوجه النظر، كحادثة الوباء في الشام – الطاعون – التي وقع فيها الحوار بين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة رضي الله عنهما – واختلف الصحابة عليهما، فأيدت طائفة رأي عمر، وأيدت أخرى رأي أبي عبيدة حيث قال لعمر: أفراراً من قدر الله؟ فقال له عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة: نعم: فراراً من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل في واد له عدوتان إحداها خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ وإن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله[34].
ولم ينكر أحد عليهما استعمال الرأي والقياس.
وكان ذلك قبل أن يأتي عبدالرحمن بن عوف بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وتنامى القياس في عصر التابعين، وتابعي التابعين، فظهر أئمة الفتوى في هذا العصر، ونضجت الآراء التي نقلت عن الصحابة، وتكونت مدارس متعددة على هدى الاجتهادات، المختلفة، وتباينت هذه المدارس لا في الفروع فقط ولكن أيضاً في نظرتها إلى الأصوال التي تؤخذ منها الأحكام، هذا التباين ليس ناشئاً فقط عن تفاوت أصحابها في فهم القرآن والاطلاع على السنة، فهم متفاوتون فعلاً في ذلك، فقد يطلع بعضهم على ما لم يطلع عليه غيره، ويصح عنده ما لم يثبت عند غيره. ولا بسبب اختلافهم في تفسير النصوص من الناحية اللغوية فحسب. فقد اختلفوا في ذلك ولكن الاختلاف قد ينشأ بسبب تقدير بعضهم لأهمية دليل على حساب آخر، مما يوجد اختلافاً في ترتيب الأدلة من إمام إلى آخر، فيحكم هذا برجحان دليل يحكم غيره بكونه مرجوحاً، فعلى سبيل المثال أبو حنيفة النعمان بن ثابت يمنع العمل بخبر الآحاد في قضايا عموم البلوى، وهي القضايا التي يحتاج إليها كل الناس حاجة ماسة تقتضي السؤال عنها لكثرة تكررها، وقضاء العادة بنقل الخبر فيها متواتراً كما نقل الكمال بن الهمام[35] وخالفه الجمهور فسميت مدرسة أبي حنيفة بمدرسة الرأي.
وعلى العكس من ذلك فإن الإمام أحمد يفضل الحديث الضعيف على الرأي، ويجب أن نشير إلى أن هذا الضعف يجب ألا يصل درجة البطلان أو النكارة، فهذا لا يحتج به الإمام أحمد كما يقول الإمام ابن القيم[36].
مما جعل مدرسته تسمى مدرسة أهل الحديث..
والإمامان مالك والشافعي أقرب إلى مدرسة أهل الحديث مع إختلاف أيضاً بين مالك وغيره في تقديم عمل أهل المدينة على خير الواحد في القضايا التي تدعو الحاجة إلى انتشارها بين الناس[37]. وكذلك فإن مذهبه عرف عنه الأخذ بالمصالح المرسلة، وسد الذرائع وإعطاء الوسائل في كثير من الحالات حكم المقاصد.
وهذا هو الطور الثالث الذي انتهى إليه تطور التعامل مع النصوص، وكان من نتيجته ميلاد أصول الفقه، التي تهدف إلى وضع ضوابط من شأنها أن تؤصل كيفية التعامل مع الكتاب والسنة، في استنباط الأحكام واستخراج المسائل، فاهتمت بدلالات الألفاظ الشرعية وتعريف الأحكام والمفاهيم وتعريف الأدلة الأصلية والفرعية، والتعادل والتراجيح[38].
أما الطور الرابع: فهو اقتصار كثير من الفقهاء على تقليد مذهب معين لا يجيزون لأنفسهم الخروج عنه، ولا الاقتباس من خارجه مما عطل نمو الفقه بمعنى الاستنباط، والتعامل مع المشكلات المتجددة في ضوء النصوص الشرعية، والأقيسة المطابقة للمعايير المقررة.
فقد آثرت أن أقسم تطور الفقه على ضوء تطور التعامل مع النصوص وبروز نوع من الأدلة بشكل أكثر ظهوراً في فترة معينة لأن ذلك هو حقيقة التطور الذي على ضوئه يمكن تقويم الحركة الفقهية بشكل أكثر وضوحاً.
وقد تعرض بعض المؤلفين في هذا العصر لأطوار الفقه فقسمها تقسيماً مشابهاً إلا أنه ليس مماثلاً في منطلقاته تماماً للتقسيم الذي ذكرته آنفاً.
فمن هؤلاء على سبيل المثال محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي الفاسي، في كتابه الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي.
وكذلك المستشرقة: بوجينا غيانة في كتابها تاريخ التشريع الإسلامي، فقد قسم الفاسي أطوار الفقه إلى أربعة أطوار:
الأول – طور طفولة الفقه وهو من أول بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاته.
والثاني – سماه طور الشباب وهو زمن الخلفاء الراشدين إلى آخر القرن الثاني.
والثالث – سماه طور الكهولة إلى آخر القرن الرابع.
والرابع – سماه طور الشيخوخة والهرم وهو ما بعد القرن الرابع إلى زمانه مبيناً الأسباب الموجبة لتلك التطورات، مقدماً أمام كل قسم ملخص التاريخ السياسي لتلك المدة في الأمم الإسلامية بالإجمال[39].
هذا كلامه في مقدمته وهو كلام قد يكون مقبولاً لولا وصفه لطور النبي صلى الله عليه وسلم بطور الطفولة، فهو خطأ في العبارة وغلط في المضمون، فلو أطلق عليه كما أطلقنا طور التأسيس والكمال لكان أولى وأحق.
وأما المستشرقة بوجينا غيانا في كتابها تاريخ التشريع الإسلامي فقد تعرضت للأطوار الأربعة بشكل يختلف قليلاً عن سابقه إلا أنها في نهاية التقسيم وصلت إلى ستة أطوار:
فتقول:
في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان المرجع الأول، والأخير في أمور الدين...
ثم ذكرت الطور الثاني.
وهو ما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الاجماع والقياس...
وذكرت جماعة من الصحابة ممن اشتهر بالفقه كالخلفاء الأربعة وذكرت الطور الثالث وهو عهد التابعين.
وذكرت الطور الرابع وهو طور التقليد، وطور الشيخوخة إلا أنها أوضحت أن بعض العلماء لم يرضخوا للتقليد ودعوا إلى الاجتهاد والتجديد وسمت ثلاثة منهم: العلامة ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية/ والشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمهم الله تعالى وأثنت على دعوتهم.
إلا أنها وصلت في النهاية إلى ستة أطوار:
1 - التشريع في عهده عليه الصلاة والسلام.
2 - في عهد الخلفاء الأربعة.
3 - بعد هذا العهد إلى أوائل القرن الثاني.
4 - من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع.
5 - من منتصف القرن الرابع إلى سقوط بغداد 656هـ.
6 - التشريع من سقوط بغداد إلى الآن.
هذا التقسيم أخذته من الشيخ محمد الخضري بك في كتابه تاريخ التشريع الإسلامي وأخذت تقسيمها الرباعي من الحجوي والأستاذ عبدالوهاب خلاف تاريخ التشريع الإسلامي لبوجينا من ص24 إلى ص33.
وفي العصر الحديث ظهرت بوادر مشجعة تشير إلى تنامي الوعي الفقهي، وظهور روح اجتهادية شوروية تعتمد على المجامع الفقهية التي أنشئت هنا وهناك وبدون أن أعلن تسمية ما يصدر عنها بإجماع فإنه يمكن أن يسمى بفقه جماعي، أو أن أطلق عليه فقه الشورى انطلاقاً من الأمر بالشورى الوارد في القرآن وما ورد في الخبر الذي رواه الطبراني بسنده يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه كيف نفعل في أمر لم نجده في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال: سلوا الصالحين واجعلوه شورى[40].
وفيه عبدالله بن كيسان وضعفه الجمهور، والضعيف يحتج به عند بعضهم في فضائل الأعمال بشروط والشورى من فضائل الأعمال.
وكذلك فإن ظهور موسوعات فقهية بدأت بمحاولة في الشام صدر قرار إنشائها سنة 1956م.
وبعدها الموسوعة المصرية، والموسوعة الكويتية وهي في طور التحرير والموسوعة الأردنية في طور النشوء وغيرها.
وكذلك قامت دعوات إلى تدريس في الفقه في الجامعات القانونية صادرة من مؤتمرات قانونية، كتلك الصادرة عن الندوة الأولى لعمداء كليات الحقوق بالجامعات العربية التي انعقدت في أبريل سنة 1973م، ببيروت.
أو الندوة الثانية لعمداء كليات الحقوق في العالم العربي التي انعقدت في بغداد سنة 1974م.
إلى غير ذلك من المؤتمرات كمؤتمر وزراء الداخلية والعدل، في الجامعة العربية.
هذه كلها مؤشرات للتطور الحديث الذي تشهده ساحة العودة إلى الفقه متمثلة في المجامع والموسوعات والندوات والمؤتمرات، وإذا ساعده ظهور بعض الدوريات والمجلات فإن من شأن ذلك أن يقدم ثروة لا يمكن تقديرها لفائدة فقهنا الإسلامي.
((مكانة الفقه))
مكانة الفقه بمختلف معانيه السابقة، مكانة منيفة ومنزلة شريفة، ولقد ذكرنا من الأحاديث عند كلامنا على معناه ما فيه كفاية، إلا أننا نضيف هنا بعض الإشارات إلى أهمية تعلم الفقه:
أولاً: قوله تعالى في سورة التوبة: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين...} الآية.
ففي هذه الآية إشارتان لطيفتان:
الأولى: إن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} الآية.
وهي تحض على النفير للجهاد، ثم قوبلت بآية تحض على النفير للتفقه في الدين، أو القعود عن النفير للتفقه حسب أوجه التفسير المعروفة في الآية.
وهذا يدل على أن طلب العلم والتفقه في الدين فرض كفاية.
الثانية: كلمة التفقه تدل على بذل الجهد، والتكلف والوسع في طلب الفقه كما يدل على فضل طلب الفقه.
حديث: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))[41].
وفي الحديث: ((ما عبدالله بشيء أفضل من فقه في دين، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد، ولكل شيء عماد وعماد هذا الدين الفقه)).
والحديث ((خير دينكم أيسره، وأفضل العبادة الفقه)) أخرجه بن عبدالبر من حديث أنس بسند ضعيف[42].
والحديث: ((إنكم أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه قليل قراؤه وخطباؤه قليل سائلوه كثير معطوه، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير خطباؤه، قليل معطوه كثير سائلوه، العلم فيه خير من العمل))[43]... رواه الطبراني من حديث حزام بن حكيم عن عمه وقيل عن أبيه وإسناده ضعيف... وأخرجه أبو عمر بن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله.
وأخرج أبو عمر موقوفاً على ابن هريرة: لأن أجلس ساعة فافقه في ديني أحب إلي من أن أحيي ليلة إلى الصباح.
وروى عبدالرزاق عن معمر عن الزهري قال: ما عبدالله بمثل الفقه[44].
ولذلك جزم العلماء بأن الفقه أفضل العلوم[45].
ففضائل الفقه لا تحصى، ومزاياه لا تعد.
قال الحجوي: "الأمة الإسلامية لا حياة لها بدون الفقه، ولا جامعة تجمعها سوى رابطة الفقه وعقيدة الإسلام، ولا تتعصب لأي جنس فهي دائمة بدوام الفقه، ومضمحلة باضمحلاله".
إلى أن يقول: "فالفقه الإسلامي من مفاخر الأمة الإسلامية، كيف لا... وهو مؤسس على روح العدل والمساواة واحترام الملك لذوبه... وإحترام النواميس الطبيعية، وقد اعتبر درء المفاسد، كمقدمة على جلب المصالح، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، ولا ضرر ولا ضرار، وتقديم الأهم على المهم[46] وبنيت أحكامه على مصالح العباد وعلى التسهيل والتيسير {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} الآية".
الخلاصة
بعد استعراضنا أقوال العلماء حول تعريف الفقه لغة واصطلاحاً وتطور الفقه سواء من الناحية المصطلحية أو من ناحية المضمون ومكانة الفقه يمكن أن نستخلص ما يلي:
أولاً: كلمة الفقه في اللغة تعني الفهم والفطنة والإدراك، والعلم عند أكثر علماء اللغة وهي معان متقاربة ومتجاورة بعضها بالأصالة وبعضها بالتبعية.
فالفهم هو الأصل والعلم بالتبع من باب التعبير عن اللازم بالملزوم، فالعلم يلزم منه الفهم والفقه أيضاً هو فهم خفايا الأمور وخباياها.
والفقه يرجع في أصل معناه إلى الشق والفتح عند بعض اللغويين وهو قول تعرضنا له بالنقد والتمحيص.
كلمة الفقه تطورت من أصل في الجاهلية: هو فحل فقيه أي فطن يميز النوق الحوامل من الحوائل. إلى رجل فقيه أي فطن في الدين عالم بأسراره وفقيه أي مجتهد مستنبط للأحكام.
وأخيراً إلى فقيه حافظ لبعض المسائل الفقهية ولو لم يكن مجتهداً للفقه عند أكثر الأصوليين معنى قائم بالفقيه وهو العلم الحاصل له بأحكام الشريعة عامة منصوصة أو مستنبطة وهو قول جيد رجحه ابن عابدين.
علم حاصل عن طريق الأدلة القطعية وهو قول الكمال بن الهمام وقول إمام الحرمين في البرهان.
علم حاصل عن طريق الاستنباط والاجتهاد وهو قول السمرقندي وإمام الحرمين في الورقات وشارحاه العبادي والمحلي.
علم بالأحكام الشرعية العملية مكتسب من طريق الأدلة التفصيلية وهو قول تاج الدين بن السبكي وشروحه والغزالي في المستصفى والسمة المشتركة بين هؤلاء جميعاً أن الفقه هو صفة للفقيه وليس شيئاً مستقلاً عنه.
علم قائم بذاته وليس وصفاً قائماً بالمجتهد وهو علم من علوم الشريعة من عبادات ومعاملات وحدود، فالفقه هو نفس الأحكام وليس مجرد العلم بها على حد تعبير الشيخ مص
منقول