| مع المتنبي ( الحماسة ) | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
كمال بوهلال عضو متميز جدا
المهنة : أستاذ تاريخ الاشتراك : 30/03/2009 المساهمات : 2176
| موضوع: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-04-08, 02:56 | |
|
عدل سابقا من قبل كمال بوهلال في 2010-11-05, 23:04 عدل 3 مرات | |
|
| |
نادية عضو متميز جدا
المهنة : طالبة تاريخ الاشتراك : 04/05/2009 المساهمات : 645
| موضوع: الحماسة عند المتنبي 2009-09-15, 11:42 | |
| يظل مصطلح حماسة رغم كثرة تداوله غائما مفتقراً للدقة والتحديد ضمن المنظومة المصطلحية النقدية العربية قديماًً وحديثاً. فالحماسة عند البعض معانٍ يمكن أن تندرج في مختلف الأغراض فتتلوّن في كل غرض بالتقاليد الموجهة للتلقي في كل عصر؛ وهي عند آخرين طابع يسم بعض النصوص بمياسم خاصة، وترتبط (الحماسة) عند فريق آخر في حدّها وتعريفها بوظيفتها في الشعر وعلاقتها بأفق انتظار المتلقي، فمتى قام الشعر على مبدأ التحميس اعتُبِر شعراً حماسيا سواء تجلى ذلك في المعاني أو في خصائصه الفنية كالإيقاع والصور.. وذهب فريق آخر من النقاد إلى أن الحماسة غرض مستقل من أغراض الشعر، مثلها في ذلك مثل المدح والرثاء والفخر...الخ. وقد اعتمدوا في ذلك، بشكل خاص، على طريقة التصنيف التي اختارها أبو تمام لكتابه ديوان الحماسة، الذي جمع فيه مختارات شعرية لشعراء جاهليين ومخضرمين في مختلف الأغراض. وقد قسّم أبو تمام ديوان الحماسة إلى أبواب رتّبها بحسب المعاني الشعرية على النحو التالي: 01 - باب الحماسة 02 - باب المراثي 03 - باب الأدب 04 - باب الهجاء 05 - باب الأضياف 06 - باب المدح 07 - باب الصفات 08 - باب السَّير والنعاس 09 - باب المُلح 10 - باب مذمة النساء | |
|
| |
نادية عضو متميز جدا
المهنة : طالبة تاريخ الاشتراك : 04/05/2009 المساهمات : 645
| موضوع: رد: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-09-15, 11:43 | |
| ولأن الباب الأول في هذه المختارات هو باب الحماسة، فقد سمي الكتاب بديوان الحماسة من باب تسمية الكل (الكتاب) بالجزء (باب). واستناداً إلى هذا التقسيم اعتبر بعض النقاد أن أبا تمام اعتبر الحماسة غرضاً مستقلاً، وكان ذلك السند النظري الأبرز الذي اعتبروا على أساسه الحماسة غرضاً مستقلاً. لكن نظرة في عناوين أبواب ديوان الحماسة، تظهر أن هذه العناوين لا تعبّر عن أغراض الشعر ـ كما نفهم اليوم الغرض الشعري ـ وإنما هي معان شعرية بالمعنى الواسع للفظة معنى، ذلك أنه من الصعب أن نعتبر السير والنعاس أو مذمة النساء غرضاً من أغراض الشعر كما نستعمله اليوم باعتباره مصطلحا نقديا محددا. ومن جهة ثانية فإن الحماسة في ديوان أبي الطيب المتنبي لا تستقل بقصائد خاصة وإنما هي مبثوثة في مختلف الأغراض وإن تفاوتت نسب حضورها من غرض إلى آخر، الأمر الذي يجعل مفهوم الحماسة مفهوما يخترق الأغراض ويتجاوزها ولا ينضبط لمقولة الغرض وشروطه. بهذا المعنى فالحماسة ليست غرضاً وإنما هي أقرب إلى أن تكون طابعا يسم بعض النصوص بمياسم خاصة، وسمات يمكن أن تحضر في الشعر لتجعل منه شعراً حماسيا بغض النظر عن الغرض الذي يندرج ضمنه هذا الشعر. الحماسة عند المتنبي: عرف الشعر العربي الحماسة منذ الجاهلية، واقترنت في الشعر الجاهلي وشعر صدر الإسلام بالفخر القبلي خاصة، وقد تحددت هذه الحماسة ضمن جملة من المعاني أهمها: الشجاعة والبطولة الحربية، ووصف الجيوش والسلاح، وتصوير المعارك ومشاهد القتال. هذه المعاني الحماسية مثلت أحد المصادر المهمة التي اعتمدها شعراء الحماسة في العصور اللاحقة منذ أبي تمام وصولا إلى المتنبي وابن هانئ. فكيف تعامل أبو الطيب مع هذا التراث الحماسي، وهل اكتفى بترديده أم تجاوزه وأضاف إليه؟ قلنا إن شعر الحماسة عند أبي الطيب يتخلل مختلف الأغراض وخاصة منها المدح والرثاء والفخر؛ بمعنى أن الغرض يظل القوة الموجِّهة للقول وإن قامت بعض المدحيات مثلاً على الحماسة في مجملها. لكن هذه الملاحظة لا تنفي وجود خصائص مشتركة لشعر الحماسة عند المتنبي وإن اختلفت الأغراض والسياقات الشعرية إنشاء وتقبلاًَ. وربما كانت أبرز هذه الخصائص المشتركة ارتباط شعر الحماسة عند أبي الطيب بمؤثرات ذاتية تتعلق بتضخم الذات والاعتداد المبالغ فيه بالنفس، وبمؤثرات موضوعية ترتبط بعصر المتنبي وخصوصية المرحلة التاريخية التي عاش فيها. | |
|
| |
نادية عضو متميز جدا
المهنة : طالبة تاريخ الاشتراك : 04/05/2009 المساهمات : 645
| موضوع: رد: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-09-15, 11:45 | |
| المؤثرات الذاتية: لا يمكن في الحقيقة أن ننظر في حماسيات المتنبي بمعزل عن ذات أبي الطيب المتضخمة والمتعالية، في إيمانها بالقوة وبالفعل سبيلاً لتحقيق الأهداف. وهو ما انعكس في شعره تغنياً بالقوة والبطولة والشجاعة مُرَدِّداً في ذلك أغلب معاني الحماسة الجاهلية التي يختصرها مفهوم الفتوة، ولكن مع تحويل/ تحوير مهم ينتقل فيه مركز الثقل من الجماعة (القبيلة) إلى الفرد، وهو أمر يبدو جلياً في الفخر كما في بقية الأغراض. فعندما يقول أبو الطيب مفتخراً: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم إنما يجعل من الضمير المتصل ني قطب البيت ومركزه، إليه تنشد معاني البطولة وحوله يدور العالم بأسره. وهو ضمير لا يُعبِّر عن ذاتٍ جمعيّة بقدر ما يعبِّر عن ذات متفرِّدة تجعل من تأكيد تفردّها فعل وجود. ذلك أن تحقيق الذات مرتبط بمدى نجاحها في إعلان تمايزها وبالتالي تميّزها، من ذلك قوله: رِدِي حياض الردى يا نفس واتَّرِكي حياض خوف الردى للشاء والنَّعَمِ فكل هذه المقابلات بين: يا نفس ≠ الشاء والنعم حياض الردى ≠ حياض خوف الردى رِدِي ≠ اتّركي تؤكد هذه الرغبة في الفرادة/التفرد، وهي معنى مهم من معاني الحماسة عند المتنبي. هذا الإيمان بالإنسان الفرد يتجلى أيضا في المدح والرثاء. فصورة الممدوح أو المرثي تظل في شعر المتنبي ذاتاً فرديةً بامتياز، ومهما تعلق الأمر بالكثرة والعدد كما هو الشأن في وصف الحرب وتحرك الجيوش وهول المعارك.. فإن هذه الكثرة تُختزَل في شخص الممدوح أو المرثي. فهو الذي يحقق النصر وعليه يتوقف سير المعركة بفضل شجاعته وصبره على المكاره وصواب رأيه وحسن تخطيطه.. يقول المتنبي في مدح سيف الدولة: يُكلِّف سيف الدولة الجيشَ همّـهُ وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم ويطلبُ عند الناسِ ما عند نفسـه وذلـك مـا لا تدّعيـه الضراغـم إن العلامة الأولى على تأكيد معنى الفردية في هذين البيتين هي التسمية (سيف الدولة)، ففي التسمية تحديد وتخصيص، وانطلاقاً من هذا التخصيص تنشأ في البيتين جملة من المقابلات التي تؤكد تميّز الممدوح وتُعمِّقُ فرديته وفرادته. إذ نجد مقابلة بين: همّـه (همته) ≠ الجيوش الخضارم نفسـه ≠ الناس وهي مقابلة تقوم على ثنائية ضدية: مفرد/جمع، وتتعمّق من خلال الأفعال المنسوبة إلى الممدوح: يكلّف، يطلب في مقابل عجزت، ما لا تدعيه لتتحول المقابلة من ثنائية: مفرد/جمع إلى ثنائية: قدرة/عجز. فذات الممدوح تقوم رديفاً للقوة والقدرة والرغبة في الفعل، في حين تنهض الجماعة صورةً للضعف والعجز والتخاذل. بهذا المعنى تبدو الحماسة عند أبي الطيب معقودة بالذات المفردة ومرتبطة بفلسفة المتنبي ونظرته للعالم في إيمانه بأن التاريخ يصنعه أفراد متميزون وإن عاندهم الحظ أحياناً كما حدث مع أبي الطيب نفسه. | |
|
| |
نادية عضو متميز جدا
المهنة : طالبة تاريخ الاشتراك : 04/05/2009 المساهمات : 645
| موضوع: رد: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-09-15, 11:46 | |
| المؤثرات الموضوعية أو الخارجية: مثلما تلوّنت الحماسة عند المتنبي بقوة حضور الذات في شعره وتحوّلها إلى قوة موجّهة للقول، فإن طبيعة المرحلة التاريخية وخصوصية القرن الرابع للهجرة باعتباره القرن الذي شهد بداية التراجع الحضاري للدولة العربية الإسلامية، قد ساهم في تلوين شعر أبي الطيب الحماسي وصبغه بطابع خاص. فقد استشعر المتنبي الأخطار التي كانت تَحيقُ بأمته والتي كان أكثرها جلاء تهديد الروم للأقاليم الشمالية. ولعل مواكبة المتنبي لهذا الصراع خلال إقامته عند سيف الدولة هو ما طبع شعره الحماسي بطابع ديني واضح تحوّل فيه صراع سيف الدولة مع الروم إلى صراع بين الكفر والإيمان، يقول المتنبي في مدح سيف الدولة: ولستَ مليكاً هازماً لنظيره ولكنك التوحيد للشرك هازم ولئن كان المتنبي في تأكيده على البعد الديني في الصراع يُعتبَرُ امتداداً لما كان بدأه أبو تمام، فإن أبا الطيب قد وسّع هذا المعنى وربطه بالبعد العروبي، فكان ذلك من أهم المعاني التي أضافها المتنبي لمعاني الحماسة المعروفة. بل إن هذا المعنى تحوّل في الكثير من مدحيات المتنبي ومرثياته، إلى الإطار الذي أصبح ينتظم بقية المعاني من إبراز للشجاعة وتصوير للحروب ووصف للجيوش...الخ. بهذا المعنى فإن الدفاع عن الأوطان في وجه العدو الخارجي والدفاع عن العصبية العربية (بمعناها الحضاري الثقافي وليس بمعناها القبلي أو العرقي) في وجه نفوذ بقية القوميات داخل الدولة الإسلامية، مثّل أحد أهم معاني الحماسة في شعر المتنبي. من السمات المهمة أيضاً لعصر المتنبي، والتي أثرت في شعره الحماسي، يمكن أن نشير إلى التحولات الاجتماعية التي شهدها مجتمع القرن الرابع، والتي جعلت من هذا العصر عصر التناقضات وانقلاب القيم؛ وهو ما يفسِّر من بعض الوجوه علاقة المتنبي المتوترة بواقعه، وانتشار مفاهيم الرفض والتمرد والغربة في شعره، فكان أقرب إلى البطل الذي يدافع عن قيم أصيلة في مجتمع متدهور بعبارة لوكاتش. هذا الرفض للواقع انعكس في شعره الحماسي تغنياً بالقيم الأصيلة، قيم الشجاعة والبطولة الحربية والذبّ عن الحرمات من جهة، وانعكس من جهة أخرى على صورة الممدوح والمرثي في شعره، إذ تحول الممدوح/ المرثي إلى رمز لتلك القيم. ففي قصائد كثيرة يتحول المدح أو الرثاء إلى تغنٍّ بمثال منشود وبقيم يكون الممدوح/المرثي تجسيداً حيًّا لها. وهو ما يخرج بالمدح (أو الرثاء) من كونه مدحاً لشخص ليكون مدحاً لقيم، فيحرر الشعر بذلك من الظرفية وضغط المناسبة ليفتحه على المطلق ويحوّله إلى شعر حماسي يتجاوز الظرفي العارض ليكون تغنياً بقيم خالدة يفعل فعله في المتلقي بمعزل عن سياقات القول. فصورة سيف الدولة في شعر المتنبي هي الصورة التي أرادها له المتنبي، إنها صورة المنشود الذي حاول المتنبي تحقيقه في الواقع، وحين فشل حاول خلقه في اللغة ومن خلال الشعر. الوجه الآخر لتحويل المتنبي الممدوح إلى قيمة يتجلى بشكل خاص في الحِكم التي يعج بها شعر أبي الطيب، من ذلك قوله يمدح سيف الدولة في مطلع المدحية: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكـارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم فهذا التغني بالعزم وبفعل الإنسان في الوجود مرتبط بفعل سيف الدولة، ولكنه يجعل من فعل الممدوح نموذجاً لهذا المعنى العام. وبذلك تكون علاقة الحكمة ـ وهي مطلع القصيدة ـ ببقية النص علاقة إجمال بتفصيل، وكأن فعل الممدوح ما هو إلا تنزيل لهذه القيم في الواقع، إنه نموذج حي لهذه القيم. وفي أحيان أخرى ترِدُ الحكمة في نهاية النص فتكون في شكل استنتاج وانتقال من الخاص إلى العام، كما في قوله يمدح سيف الدولة ويواسيه بعد هزيمته أمام الروم: إن السلاح جميعُ الناس تحمِلُهُ وليس كلُّ ذواتِ المخلبِ السَّبُعُ فالبيت ـ وهو خاتمة القصيدة ـ يقوم على مقارنة خفية بين شجاعة سيف الدولة وجبن أعدائه رغم أنهم المنتصرون، ولكنه النصر الذي يحوّله الشعر إلى هزيمة ما دام الصراع الحقيقي صراعاً بين الشجاعة (التي يمثلها سيف الدولة) وبين الجبن (أعداؤه)، والشجاعة منتصرة أبداً أياً كانت نتيجة المعركة. يمكن القول من خلال ما تقدم أن من سمات شعر الحماسة عند المتنبي، تحويل المدح والرثاء إلى مدح لقيم يمثل الممدوح تجسيدها الحي، وأن صورة الممدوح تبدو أحياناً كثيرة رسماً لمثال منشود حَلُم به المتنبي وعمِل على تحقيقه في الشعر حين عجز عن تحقيقه في الواقع. | |
|
| |
نادية عضو متميز جدا
المهنة : طالبة تاريخ الاشتراك : 04/05/2009 المساهمات : 645
| موضوع: الخصائص الفنية في شعر المتنبي 2009-09-15, 11:49 | |
| الخصائص الفنية لحماسة المتنبي: 1. الإيقـاع: نميّز في استعمال الإيقاع بينه وبين الوزن (البحر والقافية)، إذ الوزن إحدى تجليات الإيقاع، ولكن إيقاعات الأوزان لا تمثل كل تجليات الإيقاع في الكلام. ذلك أن: ـ الوزن نظام إيقاعي ثابت مقنن، أما الإيقاع فنزوع إلى الانتظام والتنظيم دون أن يكون نظاماً ثابتاً جامداً. ـ الوزن نظام مجرد سابق للنص، أما الإيقاع فمرتبط بالكلام ناشئ عن النص ومتكيف به. ـ الوزن عام ومشترك، أو هو إطاري خارجي، أما الإيقاع ففردي موضعي. بهذا المعنى فإن الإيقاع ظاهرة حيوية في الكلام ترفض التقنين، وهو ما يعني أن ما يمكن بحثه أو محاصرته من ظاهرة الإيقاع هو آليات تجليها في الكلام. ولعل ما يمكن تأكيده في ما يتعلق بالإيقاع هو ارتباطه الوثيق بمفهوم الترديد أو التكرار ولكن دون أن يماهيه، فالإيقاع تكرار في منطلقه ولكنه نفي للتكرار في مآله، بما هو كسر للرتابة كي لا يسقط في التشبع ويفقد كل قيمة جمالية. ومن جهة أخرى فالإيقاع ليس مجرد تكرار صوتي بل هو تكرار له بالدلالة أكثر من صلة. إنه كما يقول المسعدي «هندسة وبناء» بمعنى أنه يشمل مختلف مظاهر الانتظام والتنظيم في النص، وهو انتظام يكشف عن تنظيم مخصوص للمعنى في النص. ويمكن أن نتوقف في شعر أبي الطيب الحماسي عند بعض مظاهر الإيقاع منها: تكرار الأصوات: يقول المتنبي مصوراً بناء سيف الدولة لقلعة الحدث: بنـاهـا فأعلـى والقنـا تقرع القنـا وموج المنـايـا حولهـا متـلاطم يقوم هذا البيت على إيقاع قوي ومميز، وهو ناتج أساسا عن خصائص الحروف والأصوات المستعلمة وعن كيفية توزيعها على مساحة البيت، إذ نجد: ـ تكرار حروف القاف والراء والعين، وهي أصوات جهورية تحيل إلى محاكاة صوت المعركة وقعقعة السلاح. فكأنك وأنت تسمع هذا البيت تستمع إلى صوت المعركة وهو ما يشحن البيت بإيقاع مميز يعانق الدلالة لتأكيد النفَس الحماسي في القصيدة. ـ انتشار المقاطع الطويلة المنفتحة التي تعبّر عن معنى الإعلاء في البناء. فإذا كان البيت يؤكد جمع سيف الدولة في فعله بين البناء والحرب، فإن الحروف تعبّر عن هذا المعنى من خلال خصائصها الصوتية (القوة والشدة) ومن خلال توزيعها وخصائصها الكمية (انتشار المقاطع الطويلة). الجناس والتكرار اللفظي: يقول المتنبي مفتخراً: لقد تصبّرتُ حتى لات مصطبر فالآن أُقحِـمُ حتى لات مُقتَحَـم يقوم البيت على ترديد لفظي : تصبرت ـ مصطبر أقحم ـ مقتحم وهو ترديد يُظهر التقابل الدلالي بين صدر البيت وعجزه، أي بين الماضي (لقد تصبّرت) والحاضر الدال على المستقبل (فالآن). فمعنى الصبر الذي عبّر عنه الفعل المزيد (تصبّر) والذي يحمل معنى الكثرة المرتبطة بالمشقة والشدة، هو الذي استدعى تكرار نفس المادة (ص.ب.ر) في (مصطبر) الذي ورد ضمن مفعول يفيد انتهاء الغاية في الزمان (حتى...) فكان ذلك إيذاناً بالتحول الذي عبّر عنه العجز. وكان الانتقال إلى الفعل (أقحم) مرتبطاً بهذا الإصرار الذي لا مجال فيه للتردد ليكون الاقتحام والتقدم على قدر الصبر والتصبّر. إضافة إلى أن التكرار يحوّل إصرار الذات على الفعل إلى غنائية تمجّد القوة وتتغنى بالفعل. بهذا المعنى ليس ترديد الأصوات أو الألفاظ مجرد لعب لفظي وإنما هو مظهر من مظاهر تنظيم المعنى وإخراجه في النص. الموازنة التركيبية: يقول المتنبي في مطلع إحدى مدحياته في سيف الدولة: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم تلعب الموازنة التركيبية بين صدر وعجز كل بيت دوراً أساسياً في تأكيد صيغة الإطلاق في الحكمة، كما ينهض التقديم والتأخير (تأخير الفاعل: العزائم، المكارم) بوظيفة تأكيد المعنى وإظهار دور الإنسان وفعله في تحديد طبيعة النتيجة. فالعزائم (التي احتلت وظيفة الفاعل نحويا) إنما هي ـ دلاليا ـ نتيجة فعل الإنسان ومقدار العزم الذي يبذله في سبيلها. ومن جهة أخرى فإن الموازنة التركيبية تقوي الإيقاع وتساهم في خلق النفس الحماسي في النص. الترصيع: يقول المتنبي: ونحن في جَذَل والرومُ في وَجَلٍ والبرُّ في شُغُل والبحر في خَجَل يقوم البيت على قافية داخلية تمنح الإيقاع فيه طابعاً مميزاً وتحوِّله إلى تغنٍّ بالنصر في نفس حماسي ظاهر. وهو أمر تؤكده ظواهر إيقاعية أخرى في البيت مثل: ـ التناسب بين الألفاظ وتوزيع التفعيلات، وهو ما يسميه الهادي الطرابلسي بظاهرة الطفو، أي أن تطفو التفعيلة على سطح البيت: ونحن في / جذل / والروم في / وجل والبر في / شغل / والبحر في / وجل مُتَفْعِلـن / فَعِلن / مستفعلـن / فَعِلن مستفعلـن / فَعِلن / مستفعلـن / فَعلن ـ المقابلة بين: نحن ≠ الروم جذل ≠ وجل البر ≠ البحر ـ الجناس في : جذل ـ وجل ـ خجل، وهي إضافة إلى ذلك على نفس البنية الصرفية: فَعَلٌ. ـ الموازنة التركيبية بين: نحن في جذل الروم في وجل البر في شغل البحر في خجل يمكن القول إذن أن المتنبي يزرع إيقاعاته الخاصة ضمن إيقاعات الوزن فتعضدها وتقويها، وتُخبِر في الآن نفسه عن حضور المتنبي ذاتاً مبدعةً تروم الفرادة والتميز. كل ذلك في علاقة واضحة بدلالة البيت القائم على مقارنة بين نحن والروم في نفس حماسي واضح يتغنى بالنصر ولا يخفي تشفيه في الأعداء. الإيقاع بهذا المعنى حركة كيانية مرتبطة بالمبدع بقدر ارتباطها بالمتلقي، إذ الإيقاع ليس إلا إيقاعاً في الكلام يُحضر الذات في الخطاب، وإيقاعاً بالمتلقي يخلق بينه وبين النص ألفة تكون مدخلاً للتأثير فيه. 2. الصورة الشعرية: مثلما يكون الإيقاع علامة على حضور الذات في الخطاب، فإن الصورة أيضاً علامة على حضور الذات في العالم وفعلها في الوجود. فالصورة إعادة تشكيل للعالم وخلق جديد له بالكلمات، من خلال العلاقات الجديدة التي تُوجِدُها الصورة بين الموجودات. الصورة الشعرية إذن ليست مجرد أسلوب محايد يستخدمه مستعمل اللغة للتعبير والوصف، إنها موقف ورؤية. ذلك أن الصورة تشبيها كانت أم استعارة أم كناية أم مجازاً... ليست إلا عدولاً وانزياحاً عن الاستعمال المأنوس للغة، فغاية التشبيه مثلاً هي التقريب بين المتباعدات، ولكن من دون هدم ما بينها من الحدود، ذلك أن التشبيه يحافظ على استقلال طرفيه وتمايزهما مهما قرّب بينهما. وقد اعتبر البلاغيون أن الأصل في التشبيه هو تشبيه المجرد بالمحسوس انسجاماً مع مبدأ إخراج الأغمض إلى الأوضح. لكن نظرة في شعر المتنبي الحماسي تُظهِر استعمال المتنبي للتشبيه استعمالاً مخصوصاً ينأى به عن وظيفته الأساسية (تقريب الصورة)، ففي قصيدة تمر بك الأبطال مثلاً تنبني الصورة على التشبيه، وهي تشبيهات بينها من العلاقات والتشابه ما يشي بأنها اختبار فني مقصود موظف لخدمة غاية أبعد. يقول المتنبي في هذه القصيدة: وقفتَ وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تقوم الصورة على تشبيه وقوف سيف الدولة في المعركة بوقوفه في جفن الردى، وهو تشبيه تمثيل (تشبيه صورة بصورة) قام على تشبيه محسوس (وقوف سيف الدولة في المعركة) بمجرد (وقوفه في جفن الردى) الأمر الذي يجعله يخرج عن الضوابط التي حددها البلاغيون للتشبيه، إضافة إلى أن المشبه به قائم على استعارة (الردى له جفن/نائم). فهذا التشبيه تشبيه مركب ينزع إلى الغموض وليس إلى الوضوح، بمعنى أنه لا ينهض بوظيفة تقريب الصورة، بل إن غايته هي الإيغال في الخيال والمبالغة. فالصورة لا تقوم على تقريب المعنى وإنما تنهض بوظيفة تأثيرية غايتها تأكيد عظمة الممدوح من خلال الغموض والمبالغة. ويمكن قول الأمر نفسه في بقية تشبيهات هذه القصيدة. إذا كان التشبيه في شعر أبي الطيب الحماسي على هذه الصورة من التركيب، فإن هذا التركيب يكون أظهر في الاستعارة. فنزوع الاستعارة في حماسيات المتنبي إلى المبالغة وقيامها على الغلو والغموض أمر أفاض فيه النقاد قديماً وحديثاً ولسنا في حاجة إلى مزيد تأكيده. غير أن الذي يعنينا من كل ذلك هو تحوّل الاستعارة عند أبي الطيب إلى وسيلة لتشكيل العالم، وكأن المتنبي وقد عجز عن تغيير العالم في الواقع قد انبرى يبدع في شعره عالَمَه الخاص الذي أعاد فيه للغة بكارتها الأولى وهو يؤسس سلطته في الواقع من خلال الكلمات. خاتمــــة: لئن ردّد أبو الطيب في شعره الحماسي معظم معاني الحماسة التي تداولها الشعراء قبله، فإنه قد تجاوز مفهوم القبيلة الذي قامت عليه الحماسة الجاهلية ليلوّن حماسياته في أحيان كثيرة ببعد ديني ربط بين الحرب والجهاد، كما عمد إلى إخراج هذه المعاني إخراجاً جديداً من خلال اشتغاله على الإيقاع والصورة الشعرية خاصة. هذا الإخراج الجديد لمعاني الحماسة هو الذي وهب حماسياته الانتشار والخلود وجعل المتنبي من أبرز شعراء الحماسة في الأدب العربي . | |
|
| |
كمال بوهلال عضو متميز جدا
المهنة : أستاذ تاريخ الاشتراك : 30/03/2009 المساهمات : 2176
| موضوع: رد: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-09-18, 01:46 | |
| شكرا على مساهماتك القيمة ونحن في انتظار ملاحظات الأساتذة وأسئلة التلاميذ لفتح باب الحوار حول الموضوع [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] | |
|
| |
كمال بوهلال عضو متميز جدا
المهنة : أستاذ تاريخ الاشتراك : 30/03/2009 المساهمات : 2176
| موضوع: رد: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-09-18, 01:48 | |
| شكرا على مساهماتك القيمة ونحن في انتظار ملاحظات الأساتذة وأسئلة التلاميذ لفتح باب الحوار حول الموضوع [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] | |
|
| |
زائر زائر
| موضوع: رد: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-10-28, 16:05 | |
| ماهي معاني الحماسة عند أبي تمام أرجوك ساعديني بوضع مفهوم الحماسة فنحن الى حد الان لم ندرس سوى 6 حصص استاذنا انتقل و لا نزال ننتظر الأستاذ الجديد |
|
| |
نادية عضو متميز جدا
المهنة : طالبة تاريخ الاشتراك : 04/05/2009 المساهمات : 645
| موضوع: رد: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-10-28, 19:38 | |
| الحماسة لغة واصطلاحا يعود ابن منظور بمفردة الحماسة إلى أصلها الاشتقاقي فهي في اللسان مصدر من فعل حمس ومعناه اشتد وذلك في قول حمس الشر ومعناه أيضا علق بالشيء في قول حمس به. ومنه صفة الأحمس وهو المتشدد على نفسه في الدين وهو كذلك الشديد الشجاع . ويقال نجدة حمساء أي المنع والمحاربة والشجاعة . أما الحميس فهو التنور ويقال له الوطيس أيضا . المستفاد من جملة هذه المعاني أن الحقل الدلالي الناشئ عن الفعل حمس ومشتقاته الاسمية إنما يدور في معنى الشدة والبأس وفي إطاره تتنزل معاني الشر والنار والحرب وهي المعاني التي يكثر تداولها في الدلالة على القتال والمعارك الحربية . ضمن هذا الحقل الدلالي نشأ المعنى الاصطلاحي للحماسة في الشعر العربي القديم من جهة أنها تدل على القول الشعري المخصص لموضوع الحرب و الشجاعة الحربية تصويرا وتحريضا . يقول أحمد مطلوب معرفا الحماسة " الحماسة من فنون الشعر.. كانت تلازم كثيرا من المواقف كالحرب أو التحريض أو الدعوة للقتال وفيها يتناول الفخر والاعتداد بالنفس أو القبيلة أو يستثير الهمم ويحمسها للحرب " أما المستشرق شارل بلا فيعرفها بكونها " أبيات شعرية عن البسالة في الحرب " يشترك التعريفان كلاهما في اعتبار الحماسة قولا شعريا مخصصا لموضوع الحرب والشجاعة الحربية ولكنهما يختلفان في اعتبارها غرض أو مجرد معاني شعرية يتداولها الشعراء في ما ينشؤن من قصائد. هذا الاختلاف من شأنه في تقديرنا أن يغيب المميزات الخاصة بالحماسة بوصفها قولا شعريا متميزا عن غيره من الأقوال الشعرية التي تشترك معه في المعاني ولا شك أن في حديث أحمد مطلوب عن حماسة يفتخر فيها الشاعر بالنفس أو القبيلة كما جاء في تعريفه السابق ، وجها من وجوه هذا الخلط الذي نروم التوقي منه وتجنبه تمحيصا للحماسة في الشعر العربي القديم غرضا ومعنى .
منقول | |
|
| |
نادية عضو متميز جدا
المهنة : طالبة تاريخ الاشتراك : 04/05/2009 المساهمات : 645
| موضوع: الأدب اختيارات 2009-10-28, 20:27 | |
| الأدب اختيارات أبي تمام في هذا الباب من الحماسة تعكس جانباً من شخصيته، فمن يقرأ أخباره وأشعاره يلاحظ تأثره بمختاراته ولعل في هذا الأمر بداهةً إذ أن الشعراء جميعاً في ذلك الوقت كانوا يترددون على مناهج القدماء كثيراً، فضلاً عن شخصية هذا الشاعر الطائي التي اتصفت بالجدّ والوقار . وقد قصد أبو تمام في هذا الباب معنى الأدب الخلقي لا ماعرَّفه به ابن خلدون في مقدمته المشهورة «بأنه الأخذ من كلّ علمٍ بطرف» فقد اختار (لسلمة بن وابصة) - وهو شاعر إسلامي تابعي - أبياتاً تنهى عن سماع الفاحشة وتدعو إلى الصفح عن إساءة الصاحب إذ يقول : أحبُّ الفتى ينفي الفواحشَ سمعهُ كأنَّ بهِ عن كلِّ فاحشةٍ وقْرا سليمَ دواعي الصدر لاباسطاً أذىً ولامانعاً خيراً ولاقائلاً هُجرا إذا ماأتتْ من صاحبٍ لك زلةٌ فكنْ أنتَ محتالاً لزلتهِ عُذرا وهذا شاعر آخر يدعى محمد بن بشير يقول أبياتاً مليئة بالحكم : إنَّ الأمورَ إذا انسدّتْ مسالكها فالصبرُ يفتقُ منها كلَّ ماارتججا لاتيأسنَّ وإنْ طالتْ مُطالبةٌ إذا استعنتَ بصبرٍ أنْ ترى فرجا أخلقْ بذي الصبرِ أن يحظى بحاجتهِ ومدمنِ القرعِ للأبوابِ أن يلجا قدّرْ لرجلك قبلَ الخطو موضعها فمنْ علا زلقاً عن غِرَّةٍ زلجا ولايغرّنْكَ صفوٌ أنتَ شاربهُ فربّما كان بالتكدير ِ مم تزجا وهذا رجل وهو من بني قريع يقول في أبيات تتجلّى فيها الحكمة : متى مايرى الناسُ الغنّي وجارهُ فقيرٌ يقولوا عاجزٌ وجليدُ وليس الغنى والفقرُ من حيلةِ الفتى ولكنْ أحاظٍ قُسّمتْ وجُدودُ إذا المرءُ أعيتهُ المروءةُ ناشئاً فمطلبها كهلاً عليه شديدُ وإنَّ امرأً يمسي ويصبحُ سالماً من الناس إلاّ ماجنى لَسعيدُ - باب النسيب وهو من أسماء الغزل عند العرب ، ودُعي أيضاً التشبيب فابن سلام دعاه بالنسيب ، وابن رشيق لم يفرّق بين أسمائه ، فالنسيب والتغزل والتشبيب كلها عنده بمعنى واحد . على أن التبريزي أحد شرّاح الحماسة كما ذكر ، يفرق بين النسيب والغزل ، فالغزل هو «الاشتهار بمودات النساء والصبوة إليهن. أما النسيب فهو «ذكر ذلك والخبر عنه» وقد تنوعت اختيارات النسيب بين الجاهليين والإسلاميين من حضر وبدو، ومن مشهور مااختاره أبو تمام في هذا الباب للبُداة من شعراء العرب قصيدة الشاعر الإسلامي الصمّة بن عبد الله القشيري: التي يقول فيها : حننْتَ إلى ريّا ونفسكَ باعدتْ مزاركَ من ريّا وشعباكما معا فما حسنٌ أن تتركَ الأمر طائعاً وتجزعَ أن داعي الصبابة أسمعا قفا ودّعا نجداً ومن حلّ بالحمى وقلّ لنجدٍ عندنا أن يُودّعا بنفسيَ تلكَ الأرضُ ماأطيبَ الرُّبا وماأحسنَ المصطافَ والمتربّعا! وليست عشيّاتُ الحِمى برواجعٍ عليكَ ولكنْ خلّ عينيكَ تدمعا ولما رأيتُ «البشْرِ» أعرضَ دوننا وحالتْ بناتُ الشوقِ يحْنُنَّ نُزّعا بكتْ عينيَ اليسرى فلما زجرتها عن الجهلِ بعد الحلمِ أسبلتا معا تلفّتُ نحو الحيِّ حتى وجدْتني وجِعتُ من الإصغاءِ ليتاً وأخدَعا وأذكرُ أيامَ الحِمى ثمّ أنثني على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعا وهذا شاعر آخر يرثي لحال المحبين وشقائهم في حبهم إذ هم في بكاء دائم سواء في اللقاء أو الفراق فيقول : وما في الأرض أشقى من مُحبٍّ وإن وجد الهوى حُلوَ المذاقِ تراه باكياً في كل حينٍ مخافةَ فرقةٍ أو لاشتياقِ فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا خوف الفراقِ - باب الهجاء : الهجاء لغةً : هو الوقيعة في الأنساب وغيرها ورمي الإنسان بالمعايب والقبائح ، وقد قيل إن معناه التفصيل، ومنه حروف الهجاء . فأقول هجّى فلان الكلمة إذا فصّل حروفها . وكأن الشاعر إذا هجا غيره فرقه وفصله . وباب الهجاء في الحماسة ضم بين أوراقه فنوناً من الهجاء الذي تداولته العرب من هجاء شخص تناول الرجال والنساء إلى هجاءٍ قبلي تناولت القبائل فيه الذمّ والمثالب . وفيه مختارات من هجاء شعراء العصر الأموي الذي احتدم فيه الهجاء القبلي إثر انبعاث العصبية القبلية في أمصار العرب . فأما من الهجاء الشخصي فنذكر أبياتاً لامرأة تهجو زوجها واسمه قتادة اليشكري : حلفتُ ولم أكذبْ وإلا فكلُ ما ملكتُ لبيتِ الله أهديهِ حافيهْ لو انّ المنايا أعرضتْ لاقتحمتها مخافةَ فِيْهِ إنّ فيه لَداهيهْ فما جيفةُ الخنزير عند ابن مغربٍ قتادة إلاّ ريحُ مسكٍ وغاليهْ فكيفَ اصطباري ياقتادةُ بعدما شممْتُ الذي من فِيكِ أثأى صماخِيَهْ وأما الهجاء القبلي فمثاله قول الشاعر (قعنب بن أم صاحب) يهجو قومه : إنْ يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحاً مِنّي وما سمعوا من صالحٍ دفنوا صُمَّ إذا سمعوا خيراً ذكرْتُ به وإن ذُكرتُ بشرّ عندهم أذنوا جهلاً علينا وجُبناً عن عدوّهم لبئستِ الخلّتان الجهلُ والجبنُ
منقول عن نظرات في حماسة أبي تمام | |
|
| |
زائر زائر
| موضوع: رد: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-11-06, 19:35 | |
| |
|
| |
كمال بوهلال عضو متميز جدا
المهنة : أستاذ تاريخ الاشتراك : 30/03/2009 المساهمات : 2176
| موضوع: رد: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-11-06, 20:10 | |
| المعذرة عن الرابط التالي: [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]الظاهر أن المنتدى بكامله لم يعد موجودا أو هنالك إشكال ما لأنني لم أستطع الدخول إليه وليس الرابط المذكور فقط وشكرا على الملاحظة والتنبيه | |
|
| |
كمال بوهلال عضو متميز جدا
المهنة : أستاذ تاريخ الاشتراك : 30/03/2009 المساهمات : 2176
| موضوع: رد: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-11-07, 03:09 | |
| إليكم هذه الروابط لعلها تساعدكم في فهم المتنبي وشعره
أبو الطيب المتنبي
عشاق الله
أعظم شعراء العرب | |
|
| |
كمال بوهلال عضو متميز جدا
المهنة : أستاذ تاريخ الاشتراك : 30/03/2009 المساهمات : 2176
| موضوع: رد: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-11-07, 03:19 | |
| الحماسة فى شعر المتنبي
ومن طلب الفتح الجليل فإنما مفاتيحه البيض الخفاف الصوارم
عرفوا الملحمة (الحماسة) بأنها تطلق على المعركة وهي مأخوذة من التلاحم الذي هو اشتباك بين جيشين متقابلين و اعتمدها العرب للتعبير عن الشعر الذي يقال في وصف المعارك الحربية. • الحماسة في شعر المتنبي : تاخد مكانها بين الإغراض الشعرية البارزة وينفرد شعره الحماسي بسمته الحربية فيفوق بدلك بقية الشعراء لدلك نعتوه بشاعر الحروب و الملاحم وسميت كذلك قصائده الملحمية "بالسيفيات".وشعر الحماسة يصف الحرب و ما يتخللها من بطولات وما يعقبها من انتصارات وهو مادة غزيرة بالمفاخر و العزة تغدي قلوب الشعب و تنهض بالهمم و تفتح أبواب الآمال الواسعة و تثير القوى العاطفية في الإنسان . • وشعر الحماسة هو نوع من حرب الأعصاب يشنها الشاعر على الأعداء ليرعبهم ويزعجهم وهو أيضا تصوير للبطولات. و للقصيد الحماسي عناصر يتكون منها : القائد = اذا ما سرت في آثار قوم تخاذلت الجماجم والرقاب • و القائد هو بطل الإبطال يحيطه المتنبي بهالة من العظمة و تخطر بباله صورة العقاب أو الصقر وهو يهم بالتحليق فيرفع جناحيه الكبيرين فياخد هذا المنظر و يشبه به انطلاق سيف الدولة و سيره نحو المعركة فيقول: • يهز الجيش حولك جانبيه كما نفضت جناحيها العقاب • ويقول • فلا تعجبا إن السيوف كثيرة و لكن سيف الدولة لليوم واحد الجيش رمى الدرب بالجرد الحياد إلى العدى و ما علموا أن السهام خيول العدو: ويصور إبطاله في وضع المستسلم و أجسامهم مكلومة مجروحة و تظهر عليهم و على كل جيش المغلوب علامات الألم و الذل فيقول : تمر بك الإبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم الشاعر الملهم: الذى يصف المعارك بخياله الواسع يجعل المستحيل أمرا واقعا وكأنه حقيقة يقبلها السامع . ويذكر دوره في المعركة كمحارب بيده سيفه يصارع به الأعداء فيقول: إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت في أمر حقير كطعم الموت في أمر عظيم إن قصائد المتنبي الحماسية تمتاز بمتانة الوصف وجودة الصنعة حتى قال بعضهم إنها من أجود شعره فبلغ فيها حدا كبيرا من النضج فقد اتخذ لقصائده الحربية لغة قوية ذات إيقاع تعكس قوة المعارك الدائرة التي كان في معظمها شاهدا عليها نقلت صليل السيوف وجلية الخيول و الجيوش المهزومة و نزعها وتصور بالكلمة الغبار الذي تحدثه آلاف الجنود المتلاحمة والمتصادمة وقصيدة معركة الحدث الحمراء خير مثال على دلك وهي التي يصف فيها انتصار سيف الدولة في معركة ضد الروم وصدرها بحكمة بليغة فكان مطلعها قوله : على قدر أهل العزم تأتي العزائم و تأتي على قدر الكرام المكارم ونكاد نجزم انه تأثر في بعض شعره الحماسي الوصفي وفي بعض صوره بالصورة العنترية القائمة على : -1-تصوير قوة العدو التي لا تقهر -2-تضخيم المعركة -3-تفخيم المحارب الذي هو بصدد مدحه لسيف الدولة أو جنوده -4- سهولة الانتصار في الختام لتحطيم قوة العدو نهائيا وتنفرد بنية القصيدة الحماسية عند المتنبي أيضا بميزات ثلاث: -1-الاستقلالية فلا يخالطها غرض آخر يشوشها و تكون الغاية من وصف المعارك التفاخر بقوة العرب أو التلميح لاستنهاض هممهم دفاعا عن العروبة و الإسلام. -2-تكون ممزوجة بطابع مدحي فيها تمجيد للقائد و على وجه الخصوص سيف الدولة بوصفه حامي الإسلام والمدافع الأوحد عن العروبة فيكون المدح بمثابة تحديد المبادئ للقائد وأهدافه ووسم لخصاله المحمودة (اغلب السيفيات). -3-الميزة الثالثة كلاسيكية تتبع السير التقليدي للقصيد العربي الذي يستهل بالوقوف على الإطلال ثم النسيب ثم الولوج في المدح ويكون مضمون المدح وصف الحروب التي يخوضها الممدوح كما في قصيدة (معركة مرعش). فديناك من ربع وان زدنا كربا فانك كنت الشرق للشمس و الغربا علي الحاج محمد منقول عن تونيزيا سات
عدل سابقا من قبل كمال بوهلال في 2009-12-16, 02:37 عدل 1 مرات | |
|
| |
كمال بوهلال عضو متميز جدا
المهنة : أستاذ تاريخ الاشتراك : 30/03/2009 المساهمات : 2176
| موضوع: شعر الشكوى عند المتنبي 2009-12-16, 02:36 | |
| حمل هذه الدراسة المطولة حول شعر الشكوى عند المتنبي شعر الشكوى عند المتنبي اضغط هنا | |
|
| |
كمال بوهلال عضو متميز جدا
المهنة : أستاذ تاريخ الاشتراك : 30/03/2009 المساهمات : 2176
| موضوع: رد: مع المتنبي ( الحماسة ) 2009-12-16, 02:46 | |
| الحماسة في شعر المتنبي
بقلم: صلاح داود. تونس
إذا كان مفهوم الحماسة يثير في الذهن من أول وهلة المعاني الحافّة بالحرب والقتال فإن الاقتصار على ذلك يغلق منافذ أخرى ذات أهميّة يمكن أن توضّح أبعادا أكثر اتساعا تشمل مفاهيم الشدّة والشجاعة والقوّة بما قد لا يتصل إطلاقا بجوّ المعارك والقتال. وهذا من شأنه أن يجعل من المسألة قضيّة واسعة تتطلب من الدارس للشعر العربي أن يستقرىء أكثر من توجّه في هذا النطاق. وقد يتوهّم البعض منّا أن الغرض البارز في موضوع الحماسة إنما هو شعر الفخر بالأساس وربّما يتعدّاه إلى شعر المدّح. غير أن المنطق المتأني يمكّن من تبيّن أنّ الحماسة قد تكمن حتى في شعر الغزل بماهو استعراض من بعض الجوانب لحال العاشق الذي يفرض على نفسه الجهاد والصبر والمكابرة ومواجهة الصعاب للوصول الى متطلبات رحلته الوجدانيّة. ويكفي أن نذكّر في هذا السيّاق بتقديم عنتره نفسه في صورة البطل الأرقى الذي يفرض على المرأة الإعجاب به والاحترام. وتبعا لهذه الملاحظات يتطلب منّا العمل أن نتجاوز دراسة محور الحماسة عند المتنبي أو أبي تمام أو ابن هانىء أو سواهم بعيدا عن النمطيّة الجاهزة والتبويب الاعتباطي الحاضر نتيجة أحكام استباقيّة تتحكم فيها مواقف ما قبليّة. فأين تجلّيات الحماسة عند المتنبي؟ وماهي الدواعي التي عزّزت إبرازها وغلوّهاأحيانا في شعره؟ إن من أهمّ المظاهر التي تتجلّى من خلالها حماسة أبي الطيب سمة التمرّد والتغنّي والتسامي والتعشق للقوّة في كلّ مظاهر الكون بما يجعل من الإنسان يستمدّ كل معاني وجوده من هذه السّمات. وقد تجسّدت هذه الرؤية المتسامية في تحميس الذّات وتحميس الآخر. لذلك نرى أنّ شعر المتنبي الحماسي يكشف عن موقف الشاعر من نفسه وما يحمّلها إيّاه من متاعب جمّة وعن موقفه من العالم الخارجي وما يشترطه فيه وجوبا من ضرورات حتى يستطيع التناغم معه والتعايش. وهذا الآخر قد يكون ذاك الذي عاصره المتنبي أو حتى القارىء في كل زمان ومكان. إنّ أبا الطيب يتعامل مع ما حوله بكثير من الرفض والثورة. فليس من الهيّن عليه أن يتقبّل أمرا لم يتوافق مع أفكاره ومبادئه ونظرته الى الحياة. فلقد رسم لنفسه حدّا لا أقل منه، ويظهر ذلك في أكثر من مقام وأكثر من غرض وفي جلّ مراحل عمره: في بداية تجربة الحياة، وبعد أن ضرب في الأرض وخبر البلاد والعباد. فالحميّة اخترقت خلاياه وتخلّلت عقله وتغلغلت في وجدانه حتى بدا الصبي أبو الطيب قد قفز على عمره وكسّر النمطيّة الجاهزة عن معالم الطفولة. فقد توطّنت فيه كبرياء العظماء وقوّة الرجال وصلابة الفحول وهو ما يزال في سنّ الصبى بعيدا جدّا عن التبكير تجاه أفكار الكبار: أيّ محلّ أرتقي * أي عظيم أتّقي وكلّ ما قد خلق * الله وما لم يخلق محتقر في همّتي * كشعرة في مفرقي تبدو قعقعة القاف مدوّية، وهو الصوت الحلقي المزدوج الشدّة والحرف الحلقيّة الأخرى مزيجا من الأنين (الهمزة مرّتين) (ثم مرّة) في البيت 1 ومزيجا من الاختناق (العين والخاء والحاء..) حتى بدا الكون مبعث اشمئزاز يستفزّ مجرّد العيش فيه أنفة المتنبي ويتوّقه في تحمّس باد صوت الأعلى والأعظم والأمثل والنظر في شعر الصبي يوضّح بجلاء أنها ليست مسألة عرضية تلك التي تشغل المتنبي، ففي باطنه ما يدفع الى الحلم المنشود تلبية لما يرومه «الطفل الكبير» حتى كأنّ أبا الطيب ولد أصلا كبيرا وسيظلّ يحدّد لنفسه عبر مراحل حياتها علامات السير وأهداف الرحلة: إن أكن معجبا فعجب عجيب * لم يجد فوق نفسه من مزيد وهذا الطفل الأعجوبة هو الذي سيلزم أبا الطيب بأن «يفترش» «صهوة الحصان» ويغامر الى عالم قدسي خارق للموجود صوب النجوم مفرشي صهوة الحصان ولكنّ * قميص مسرودة من حديد وليس إلا بهذا النهج الحركي يتمكّن المتنبي من إدراك الهدف: إذا غامرت في شرف مروم * فلا تقنع بما دون النجوم وهو يعلم أنّ مثل هذه الرحلة ليست بالهيّنة، ولكن لا اختيار لمن ارتأى لنفسه طريقا مخصوصة به: وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام فالمتنبي يقسو على نفسه يحمّلها من المشاق ما لا طاقة للإنسان العادي به وكأنّه يروّضها على ماهو من مشمولاتها أو من المقتضيات التي يحب أن تصبح جزءا من مكتسباتها، مرغما لها على أن تكسّر الموروث. وبهذا المنطق المتشدّد مع الذات، كأنّ المتنبي يعلم كل ذي نفس مهزوزة أو ضعيفة أنّ السبيل الى الانسانية في الإنسان لا تستوجب تردّدا أو تحتمل تشكيكا: إذا اعتاد الفتى خوض المنايا * فأهون ما يمرّ به الوحول يهون علينا أن تصاب جسومنا * وتسلم أعراض لنا وعقول فالتضحية بالجسد/ بالمادّة مهما عظمت هي السبيل الرئيسي لنيل الشرف الأخلاقي والعلمي. إنّ المتنبي الإنسان والمتنبي الشاعر يتقابسان نار السيّادة ولذة الشموخ. وبذلك يتحوّل المتنبي رائد يحمّس النفوس الخائرة والمستخفين بالمنزلة العليا على أن يراجعوا مفاهيمهم للكون. فالحماسة هنا تبدو أكثر من مجرّد حالة وإنما هي موقف وقرار ومسؤولية وهي ليست أمرا اختياريّا أو عرضيّا ظرفيا، بل هي سمة قارّة أساسيّة، إذ انتفت انتفى معها كنه الوجود وسرّ الحياة. لذلك حمّل المتنبي نفسه أعباء الحركة وحرّم عليها الركون الى الراحة لأن الراحة أصلا هي التعب السلبي، والتعب هو الراحة الايجابيّة. يقول لي الطيب: أكلت شيئا؟ * وداؤك في شرابك والطعام! وما في طبّه أنّي جواد * أضرّ بجسمه طول الجمام فإن أمرض، فما مرض اصطباري * وإن أحمم فما حّم اعتزامي فحتى لحظة المرض تصبح من المحرّمات لأنها العدّوة للحماسة والشدّة، تعوّد على الاسترخاء وتعلّم الليونة، إنها باختصار عدوّة الرجولة. ومن نفس المنطلق اعتبر الخمرة والمرأة عدوّتين لدودتين لأنهما مثل المرض: ضعف ووهن للبدن والعقل وشدّ الى الاستقرار والجلوس: ولا تحسبن المجد زقا وقينة * فما المجد إلا السيّف والفتكة البكر وهذا ما يفسّر تمازج لغة العشق النسائي بعشق السلاح: وغير فؤادي للغواني رميّة * وغير بناني للزجاج ركاب تركنا لأطراف القنا كل شهوة* فليس لنا إلا بهنّ لعاب وهذا ما يفسّر كذلك شبه خلوّ ديوان المتنبي من الغزل وهو الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. إنّ في هذا دليلا جليّا على أنّ ما يرنو إليه يوجد فوق الأرض، هناك حيث المجد والأنا الأرقى بعيدا عن جاذبيّة النساء والخمّارات والجنس. ولم يكن المتنبي مجرّد منظر للحماسة ومبدإ الشدّة، بل كان يعيش ذلك شاعرا وإنسانا. فقد تحمّس للكلمة الصادقة النابضة بأصالة العرب بعيدا عن كل عجمة ورطانة ودخيل، فلغة الأجداد ليست في حاجة الى رديف يشدّ أزرها بل هي قادرة بذاتها شموخا وصمودا فما حذقه المتنبي من بداوتها جعله مقتنعا بأنّه قادر على أن يسمع الأصمّ ويرى الأكمة الأعمى: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي * وأسمعت كلماتي من به صمم ولهذا حقّر كل من قصّر عن القصيدة العربية ولم يرق الى مستوى فصاحتها وبيانها: بأيّ لفظ تقول الشعر زعنفة * تجوز عندك، لا عرب ولا عجم ولعلّ هذا من الأسباب القويّة التي دفعت المتنبي للتعريف «بالمتنبي شاعرا» بين الآفاق وترتفع بشعره عن مدح من لم يكن في مستوى الرجولة. مثل ذلك مثل ابن كيغلغ الذي ألحّ على المتنبي ليمدحه فما كان منه إلاّ أن هجاه. فلشعر المتنبي تحفز نحو المغامرة وايصال صوت البيان وصداح البلاغة في عصر كثر فيه العجم والعبيد. فلا بدّ أن يتوفر شعره على القدر الأعلى في تحمّل الرسالة خدمة لقضية العرب: اللّغة بوصفها الهويّة والانتماء والمستقبل. وقد تحمّل أبو الطيب أعباء تلك الرسالة فحبّب الى النفس كل المعاني العربيّة الشامخة الضاربة بجذورها في عمق الصحراء وشدّة البداوة وقساوة الحرارة. حبّب الحرية ونفرّ من العبوديّة، وتغنى بالقوة وتأنّف من الجبن. وأنشد أناشيد الحرب وأغرى بساحات الوغى ولذائد النصر حتى بدت من الصور أغربها ومن الأبعاد أطرفها. فالمتنبي رسم لنفسه هدفا فوق المعقول: أريد من زمني ذا أن يبلّغني * ما ليس يبلغه من نفسه الزمن فعزّة الشموخ قد التصقت بأبي الطيب حتى أصبحت ضربا من الغنائيّة العجيبة أحيانا مثلما تجلوه الأبيات التالية: لا افتخار إلاّ لمن لا يُضام * مدرك أو محارب لا ينام ليس عزما ما مرّض المرء فيه *ليس هما ما عاق عنه الظلام واحتمال الأذى ورؤية جانيـ * ـه غذاء تضوى به الأجسام ذّل من يغبط الذليل بعيش * ربّ عيش أضفّ منه الحمام ولم يكتف بذلك بل انعكس هذا التحمّس على علاقاته بالآخر. حماسة المتنبي في علاقتها بالاخر: قد يكون هذا الآخر في جانب منه أبا الطيّب نفسه فهو مهما يكن الأمر إنسان، وقد تأخذه بين الفينة والأخرى لحظات ضعف وانكسار إلاّ أنه ينتفض ويتقاوى ويتعاظم محمّسا نفسه ولائما أحيانا أو حتى مقرّعا: صحب الناس قبلنا ذا الزّّمانا * وعناهم من شأنه ما عنانا وتولّوا بغصّة كلهم منـ * ـه وإن سرّ بعضهم أحيانا .. ولو أن الحياة تبقى لحيّ * لعددنا أضلّنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموت بدّ * فمن العجز أن تموت جبانا صحيح أن النفس العام تطعن عليه غنائية المنهار المستضعف ولكن القسوة الذاتية من عمق الشخصية تأبى التسليم والرضوخ وتتوجه الى كل من يتربّص به الفناء كي يرفض الموت ويتمرّد عليه. إنّ الحلّ للخلود في رفض الجبن أمام القضاء وأمام الزمان. إنّه درس في وجوب التمرّد وسبيل البقاء. إنّ المتنبي ينتفض من بين أنقاض الهزيمة والاحباط ليجمع ما تشتّت من قواه الخائرة في صراع بين القدرة والإمكان والممكن والمستحيل والكائن وما يجب أن يكون. أبو الطيب يروّض النفوس على اختراق المستحيل وبدون ذلك لا يكون المرء جدير بإنسانيته، فمقياس الإنسان الحق أن يتعفّف ويترفّع في صبر ضدّ قانون الطبيعة ذاته: وأصدى فلا أبدي الى الماء حاجة * وللشمس فوق اليعملات لعاب وإنّ المطّلع على مدحيّات المتنبي يلاحظ اصرارا عنيدا على جملة من القيم استهوته وأحبّها في من مدح صادقا أو طبقا لمقتضيات طبيعة المدحيّة القاضية بوجوب تمجيد الممدوح. فالقاموس الحماسي ينهل من مبادىء عربيّة ترّسخ للرجولة في أعمق معانيها سواء أتعلق الأمر بما هو مجرّد طبع في الانسان أو ماهو ضرورة من ضرورات الدفاع عن النفس والعرض والوطن. فقد أفاض من عالمه الاسقاطي على من مدح من العظماء فحبّب للمتلقي الرجل الكريم الشجاع الفاعل. ويتجلّى هذا بالخصوص في استقرار أبي الطيب تسع سنوات مع سيف الدولة رغم كونه يأبى الاستقرار ويدعو جاهدا الى الحركة. ففي سيف الدولة مميّزات رجولة وصلف وكبرياء. يضاف الى ذلك صفات المروءة التي تصبح علامة استفزاز ايجابيّة للجميع، خاصة أنّ سيف الدولة تحولت المبادىء النظرية معه واقعا ملموسا يمارس للدفاع عن العروبة والاسلام. يكلّف سيف الدولة الجيش همّه * وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم فلم تعد البطولة مجرّد قول في معجميّة الممدوح، وفي هذا تماه مع الماح: أقلّ فعالي بلّه أكثر مجد * وذا الجدّ فيه نلت أم لم أنل جدّ ومن نفس المنطلق تتحول القصيدة الهجائية تجسيما لوهن قوى المهجو وخور عزيمته وكثرة نواقصه الرّجولية وفي هجاء كافور مثلا ما يحمّس النفس والعقل معا أفرادا وجماعات للاستنكاف من كلّ ماهو انهيار قيمي كالخسّة والنذالة: أمينا وإخلافا وغدرا وخسّة * وجبنا، أشخصا لحت لي أم مخازيا؟ فلا يتوقّف مفهوم الحماسة على غرض بعينه أو شخص أو زمان، فحتى عندما رثى جدّته، عوض أن يضعف المتنبي نراه يعلم الناس كيف تقلب. ساعة الانحناء استقامة، ولحظة اليأس اندفاعا ووثوبا كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي * ويا نفس زيدي في كرائهها قدما فلا عبرت بي ساعة لا تعزّني * ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما إنّ معاني الحماسة في قاموس المتنبي قد بلغت من الغرابة أحيانا أن تطال حالات يكون فيها الانسان مجبولا على القبول والتلطّف واللّين فحتى المرأة الحبيبة إذا ما علقها الرجل، يجب أن تتحوّل عنصرا محفّزا لا مثبّطا، وعنصر تعال لا تدنّ. لذلك استمالته المرأة البدوية لما هي عليه من طباع وسلوك تساهم في إشعار الرجل برجولة مزدوجة، فارتباطه بها إنّما هو تقوية للصدق والجمال وكذلك الصلابة والإباء: حسن الحضارة مجلوب بتطرية * وفي البداوة حسن غير مجلوب فالمتنبي ينفر من الرّياء والكذب حتى بأصباغ الزينة والكلام. فللمرأة قدر من «الرجولة» لا بدّ أن يتوفر فيها لتكون جذّابة محترمة يخفق لها الوجدان والعقل معا. وفي هذا انتماء واضح الى أصالته المعهودة: سوائر ربّما سارت هوادجها *منيعة بين مطعون ومضروب وربّما وخدت أيدي المطيّ بها *على نجيع من الفرسان مصبوب فاللغة والصورة غريبتان على غرض مثل الغزل: (الطعن والضرب والمناعة والنجيع والفرسان..) وكأنّنا في ساحة وغى وقتال. إنها ملحمة الحبّ وهيجان الرجولة حتى في الوقت الذي من المفروض أن تهدأ. فإذا كانت المرأة العادية عنوان اضعاف للرجل فإنّ امرأة أبي الطيب تتحوّل عنصر تقوية لبثّ المزيد من الشدّة. وقد تفاعل الشاعر مع هذا النمط من التفكير والشعور، فاستهواه وتجلّت ملامحه في غرض المدح. فصورة النصر الباهر الذي توفرت مظاهره العديدة على يدي سيف الدولة انتقل انبهارها الى قريحة أبي الطيب فهيّجت فيه شجون حبّ وهيام الى حدّ يشبه العشق والانتشاء الساحر. إنه يتملّى الجثث المتناثرة فوق جبل الأحيدب وقد أثخن القائد العربي في صفوف الروح فبدّد شملهم وأنهك قواهم، فإذا المشهد مشهد زفاف وعروس ومدعوّين: نثرتهم فوق الأحيدب كلّه * كما نثرت فوق العروس الدراهم .. ولست مليكا هازما لنظيره * ولكنّك التوحيد للشرك هازم تتداخل ملحمة القلب بملحمة الروح بملحمة الصورة العقليّة الايحائية.. ولا غرابة من منطق المتنبي: فقلبه يخفق حبّا وارتياحا، وروحه تسبح لنصر الله في شخص الممدوح، وعقله متفتّقة قريحته على صور إبداعية ايحائية تبحث عن الجديد غير المسبوق. فعين المتنبي متحمسة في كل مقام ومع كل غرض وكل شيء، لأنها بكلّ بساطة ليست مستعدّة لغير ذلك كي تراه وتتعشقه. ولعلّ هذا ما يفسّر من بعض الوجوه، غياب المقدّمات الطلليّة النسائية العاطفيّة في عدد من المدحيّات أو إيجازها أحيانا أخرى. فالمتنبي ليس مستعدّا للوقوف أصلا، فما بالك إذا كان الوقوف للبكاء والضعف والتوّع. لذا عوّض العقل القلب في كثير من مقدّمات المدحيّات، فحضرت الحكم والتأمّلا: لكل امرىء من دهره ما تعوّدا * وعادات سيف الدولة الطعن في العدى أو قوله: على قدر أهل العزم تأتي العزائم** وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها** وتصغر في عين العظيم العظائم أبيات تدور على بعضها بعضا لتصنع فنّ التعشق للعظمة والبطولة والإباء، فيصبح منه بطل القصيدة عروبة تقارع عجمة، وإسلاما يناجز كفرا: تشرّف عدنان به لا ربيعة * وتفتخر الدنيا به لا العواصم فهذا البيت ورد في آخر القصيدة ليفصّل القول في ما تنبّأت به المقدّمة الحكميّة، فالبطل الأسطوري يشده الرجال إليه ويمنع الفراق ويعسّره: يا من يعزّ علينا أن نفارقهم * وجداننا كل شيء بعدكم عدم ورغم أنّ عصر المتنبي (القرن 4هـ) تباعدت فيه المسافة عن العصر الجاهلي وقيمه فإن عقل المتنبي ظل لصيقا به حتى كأنه غريب عن عصره ممّا عسّر العلاقة مع الآخر ـ فكافور ـ مثلا ـ كان نموذجا للرجل الذي كوّن نفسه بنفسه فقد قال فيه خير الدين الزركلي في «الأعلام»: «مازالت همّته تصعد به حتى ملك مصر سنة 355 هـ. وكان فطنا ذكيّا حسن السياسة.. قام بتدبير المملكة. قال الذهبي: كان عجبا في العقل والشجاعة» ورغم كل هذه الشهادة الصارخة، فإنّ قراءة المتنبي لشخصيّة كافور أفسدت عليه رؤية تلك الخصال، فأبو الطيب مأخوذ بعقليّة عصبيّة عنصرية تحتقر المرء لمجرّد لونه الأسود، فكان ذلك وحده كفيلا بأن يطمس ما طبع بلاط الملك بأرقى أنواع المعرفة والمناظرات والمساجلات الفكريّة والأدبيّة فلم يبق من الرجل إلا جلدة زيتية وشفران غليظان ورجلان مضخمتان حتى كأنه السليخة التي يُرمى بها في سلة القمامة: نتونة وخصي ينفي كلاهما كلّ رجولة وكل سيادة. من علّم الأسود المخصيّ مكرمة * أقومه البض أم أباؤه الصيد أم أذنه في بد النخّاس دامية * أم قدره وهو بالفلسين مردود؟ موقف واضح من الأعاجم كان من المفروض أن تغليه عقليّة الإسلام السمحة. وهكذا نفهم كيف انتقى أبو الطيب أبطال أشعاره رمزا للبهاء فعلا، ورمزا للبهاء أصلا. إنّ فكر الانتصار يجعل من الرجل قادرا حتى لو كان منفردا في عصر الهزائم والانقسامات. وبهذا الاستثناء الخارج عن وعلى القاعدة جسّم بطله سيف الدولة: وقفت وما في الموت شك لواقف * كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم وهذا ما يفسّر كذلك إعجاب الشاعر ببدر بن عمار وتصرّفه مع الأسد، فكان الرجل الأسطورة التي لا تحدث دائما: أمعفّر الليث الهزبر بسوطه * لمن إدّخرت الصارم المصقولا .. سبق التقاءكه بثوبة هاجم * لو ل تصادمه لجازك ميلا خذلته قوّته وقد كافحته * فاستنصر التسليم والتجديلا .. ما كلّ من طلب المعالي نافذا * فيها ولا كلّ الرجال فحولا ومن يتبع جزءا من أولى مدحيّات المتنبي في سيف الدولة يزداد تأكدا من تغلغل الحسّ الحماسي الملحمي الذي امتلك جوارح الشاعر فتواثبت لديه الصور تدور على نفسها في تناغم داخلي يحاكي دوران الجيش على الجيش والتحام الأبطال بالأبطال حتى تخترقك الكلمة بإيحاءاتها تفعل فعل الساحر في جلبه لأمجاد الأجداد عروبة وإباء واصرارا. طبيعة متحرّكة صبحا ليلا وسيوفا وقنا، تتآزر لتصنع المجد والسؤدد جناس وطباق ومقابلات واطناب وتكرار صور تولّد صورا في لغة لا تعترف بخديل، في قدرة عجيبة على الإخصاب الذاتي: فقد ملّ ضوء الصبح ممّا تغيره * وملّ سواد الليل ممّا تزاحمه وملّ القنا ممّا تدق صدوره * وملّ حديد الهند ممّا تلاطمه سحاب من العقبان يزحف تحتها * سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه بهذا المستوى من الرؤى الشعرية تفرّد المتنبي فاغترب، وعاش حياة أبعد ما كون عن الهدوء والقرار. وتلك ضريبة الرجولة عندما تفرض على أصحابها ممّا عجزوا عن أن يتنكّروا للهويّة والانتماء، الانتماء الى اللّه إسلاما والى الإنسان عروبة وفي تكامل أفقي عمودي بينهما نقطة التقادح والخلود: فالإنسان قبس من روح اللّه.
صلاح داود تونس منقول عن تجمع شعراء بلا ح | |
|
| |
كمال بوهلال عضو متميز جدا
المهنة : أستاذ تاريخ الاشتراك : 30/03/2009 المساهمات : 2176
| موضوع: المتنبي والقسوة على النفس 2009-12-16, 02:53 | |
| المتنبي يقسو على نفسه يحمّلها من المشاق ما لا طاقة للإنسان العادي به وكأنّه يروّضها على ماهو من مشمولاتها أو من المقتضيات التي يحب أن تصبح جزءا من مكتسباتها، مرغما لها على أن تكسّر الموروث. وبهذا المنطق المتشدّد مع الذات، كأنّ المتنبي يعلم كل ذي نفس مهزوزة أو ضعيفة أنّ السبيل الى الانسانية في الإنسان لا تستوجب تردّدا أو تحتمل تشكيكا: إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأهون ما يمرّ به الوحول يهون علينا أن تصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول فالتضحية بالجسد/ بالمادّة مهما عظمت هي السبيل الرئيسي لنيل الشرف الأخلاقي والعلمي. إنّ المتنبي الإنسان والمتنبي الشاعر يتقابسان نار السيّادة ولذة الشموخ. وبذلك يتحوّل المتنبي رائد يحمّس النفوس الخائرة والمستخفين بالمنزلة العليا على أن يراجعوا مفاهيمهم للكون. فالحماسة هنا تبدو أكثر من مجرّد حالة وإنما هي موقف وقرار ومسؤولية وهي ليست أمرا اختياريّا أو عرضيّا ظرفيا، بل هي سمة قارّة أساسيّة، إذ انتفت انتفى معها كنه الوجود وسرّ الحياة. لذلك حمّل المتنبي نفسه أعباء الحركة وحرّم عليها الركون الى الراحة لأن الراحة أصلا هي التعب السلبي، والتعب هو الراحة الايجابيّة. يقول لي الطيب: أكلت شيئا؟ وداؤك في شرابك والطعام! وما في طبّه أنّي جواد أضرّ بجسمه طول الجمام فإن أمرض، فما مرض اصطباري وإن أحمم فما حّم اعتزامي فحتى لحظة المرض تصبح من المحرّمات لأنها العدّوة للحماسة والشدّة، تعوّد على الاسترخاء وتعلّم الليونة، إنها باختصار عدوّة الرجولة. ومن نفس المنطلق اعتبر الخمرة والمرأة عدوّتين لدودتين لأنهما مثل المرض: ضعف ووهن للبدن والعقل وشدّ الى الاستقرار والجلوس: ولا تحسبن المجد زقا وقينة فما المجد إلا السيّف والفتكة البكر وهذا ما يفسّر تمازج لغة العشق النسائي بعشق السلاح: وغير فؤادي للغواني رميّة وغير بناني للزجاج ركاب تركنا لأطراف القنا كل شهوة فليس لنا إلا بهنّ لعاب وهذا ما يفسّر كذلك شبه خلوّ ديوان المتنبي من الغزل وهو الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. إنّ في هذا دليلا جليّا على أنّ ما يرنو إليه يوجد فوق الأرض، هناك حيث المجد والأنا الأرقى بعيدا عن جاذبيّة النساء والخمّارات والجنس. ولم يكن المتنبي مجرّد منظر للحماسة ومبدإ الشدّة، بل كان يعيش ذلك شاعرا وإنسانا. فقد تحمّس للكلمة الصادقة النابضة بأصالة العرب بعيدا عن كل عجمة ورطانة ودخيل، فلغة الأجداد ليست في حاجة الى رديف يشدّ أزرها بل هي قادرة بذاتها شموخا وصمودا فما حذقه المتنبي من بداوتها جعله مقتنعا بأنّه قادر على أن يسمع الأصمّ ويرى الأكمة الأعمى: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم ولهذا حقّر كل من قصّر عن القصيدة العربية ولم يرق الى مستوى فصاحتها وبيانها: بأيّ لفظ تقول الشعر زعنفة تجوز عندك، لا عرب ولا عجم ولعلّ هذا من الأسباب القويّة التي دفعت المتنبي للتعريف «بالمتنبي شاعرا» بين الآفاق وترتفع بشعره عن مدح من لم يكن في مستوى الرجولة. مثل ذلك مثل ابن كيغلغ الذي ألحّ على المتنبي ليمدحه فما كان منه إلاّ أن هجاه. فلشعر المتنبي تحفز نحو المغامرة وايصال صوت البيان وصداح البلاغة في عصر كثر فيه العجم والعبيد. فلا بدّ أن يتوفر شعره على القدر الأعلى في تحمّل الرسالة خدمة لقضية العرب: اللّغة بوصفها الهويّة والانتماء والمستقبل. وقد تحمّل أبو الطيب أعباء تلك الرسالة فحبّب الى النفس كل المعاني العربيّة الشامخة الضاربة بجذورها في عمق الصحراء وشدّة البداوة وقساوة الحرارة. حبّب الحرية ونفرّ من العبوديّة، وتغنى بالقوة وتأنّف من الجبن. وأنشد أناشيد الحرب وأغرى بساحات الوغى ولذائد النصر حتى بدت من الصور أغربها ومن الأبعاد أطرفها. فالمتنبي رسم لنفسه هدفا فوق المعقول: أريد من زمني ذا أن يبلّغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمن فعزّة الشموخ قد التصقت بأبي الطيب حتى أصبحت ضربا من الغنائيّة العجيبة أحيانا مثلما تجلوه الأبيات التالية: لا افتخار إلاّ لمن لا يُضام مدرك أو محارب لا ينام ليس عزما ما مرّض المرء فيه ليس هما ما عاق عنه الظلام واحتمال الأذى ورؤية جانيـ ـه غذاء تضوى به الأجسام ذّل من يغبط الذليل بعيش ربّ عيش أضفّ منه الحمام ولم يكتف بذلك بل انعكس هذا التحمّس على علاقاته بالآخر. حماسة المتنبي في علاقتها بالاخر: قد يكون هذا الآخر في جانب منه أبا الطيّب نفسه فهو مهما يكن الأمر إنسان، وقد تأخذه بين الفينة والأخرى لحظات ضعف وانكسار إلاّ أنه ينتفض ويتقاوى ويتعاظم محمّسا نفسه ولائما أحيانا أو حتى مقرّعا: صحب الناس قبلنا ذا الزّّمانا وعناهم من شأنه ما عنانا وتولّوا بغصّة كلهم منـ ـه وإن سرّ بعضهم أحيانا .. ولو أن الحياة تبقى لحيّ لعددنا أضلّنا الشجعانا وإذا لم يكن من الموت بدّ فمن العجز أن تموت جبانا صحيح أن النفس العام تطعن عليه غنائية المنهار المستضعف ولكن القسوة الذاتية من عمق الشخصية تأبى التسليم والرضوخ وتتوجه الى كل من يتربّص به الفناء كي يرفض الموت ويتمرّد عليه. إنّ الحلّ للخلود في رفض الجبن أمام القضاء وأمام الزمان. إنّه درس في وجوب التمرّد وسبيل البقاء. إنّ المتنبي ينتفض من بين أنقاض الهزيمة والاحباط ليجمع ما تشتّت من قواه الخائرة في صراع بين القدرة والإمكان والممكن والمستحيل والكائن وما يجب أن يكون. أبو الطيب يروّض النفوس على اختراق المستحيل وبدون ذلك لا يكون المرء جدير بإنسانيته، فمقياس الإنسان الحق أن يتعفّف ويترفّع في صبر ضدّ قانون الطبيعة ذاته: وأصدى فلا أبدي الى الماء حاجة وللشمس فوق اليعملات لعاب وإنّ المطّلع على مدحيّات المتنبي يلاحظ اصرارا عنيدا على جملة من القيم استهوته وأحبّها في من مدح صادقا أو طبقا لمقتضيات طبيعة المدحيّة القاضية بوجوب تمجيد الممدوح. فالقاموس الحماسي ينهل من مبادىء عربيّة ترّسخ للرجولة في أعمق معانيها سواء أتعلق الأمر بما هو مجرّد طبع في الانسان أو ماهو ضرورة من ضرورات الدفاع عن النفس والعرض والوطن. فقد أفاض من عالمه الاسقاطي على من مدح من العظماء فحبّب للمتلقي الرجل الكريم الشجاع الفاعل. ويتجلّى هذا بالخصوص في استقرار أبي الطيب تسع سنوات مع سيف الدولة رغم كونه يأبى الاستقرار ويدعو جاهدا الى الحركة. ففي سيف الدولة مميّزات رجولة وصلف وكبرياء. يضاف الى ذلك صفات المروءة التي تصبح علامة استفزاز ايجابيّة للجميع، خاصة أنّ سيف الدولة تحولت المبادىء النظرية معه واقعا ملموسا يمارس للدفاع عن العروبة والاسلام. يكلّف سيف الدولة الجيش همّه وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم فلم تعد البطولة مجرّد قول في معجميّة الممدوح، وفي هذا تماه مع الماح: أقلّ فعالي بلّه أكثر مجد وذا الجدّ فيه نلت أم لم أنل جدّ ومن نفس المنطلق تتحول القصيدة الهجائية تجسيما لوهن قوى المهجو وخور عزيمته وكثرة نواقصه الرّجولية وفي هجاء كافور مثلا ما يحمّس النفس والعقل معا أفرادا وجماعات للاستنكاف من كلّ ماهو انهيار قيمي كالخسّة والنذالة: أمينا وإخلافا وغدرا وخسّة وجبنا، أشخصا لحت لي أم مخازيا؟ فلا يتوقّف مفهوم الحماسة على غرض بعينه أو شخص أو زمان، فحتى عندما رثى جدّته، عوض أن يضعف المتنبي نراه يعلم الناس كيف تقلب. ساعة الانحناء استقامة، ولحظة اليأس اندفاعا ووثوبا كذا أنا يا دنيا إذا شئت فاذهبي ويا نفس زيدي في كرائهها قدما فلا عبرت بي ساعة لا تعزّني ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما إنّ معاني الحماسة في قاموس المتنبي قد بلغت من الغرابة أحيانا أن تطال حالات يكون فيها الانسان مجبولا على القبول والتلطّف واللّين فحتى المرأة الحبيبة إذا ما علقها الرجل، يجب أن تتحوّل عنصرا محفّزا لا مثبّطا، وعنصر تعال لا تدنّ. لذلك استمالته المرأة البدوية لما هي عليه من طباع وسلوك تساهم في إشعار الرجل برجولة مزدوجة، فارتباطه بها إنّما هو تقوية للصدق والجمال وكذلك الصلابة والإباء: حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب فالمتنبي ينفر من الرّياء والكذب حتى بأصباغ الزينة والكلام. فللمرأة قدر من «الرجولة» لا بدّ أن يتوفر فيها لتكون جذّابة محترمة يخفق لها الوجدان والعقل معا. وفي هذا انتماء واضح الى أصالته المعهودة: سوائر ربّما سارت هوادجها منيعة بين مطعون ومضروب وربّما وخدت أيدي المطيّ بها على نجيع من الفرسان مصبوب فاللغة والصورة غريبتان على غرض مثل الغزل: (الطعن والضرب والمناعة والنجيع والفرسان..) وكأنّنا في ساحة وغى وقتال. إنها ملحمة الحبّ وهيجان الرجولة حتى في الوقت الذي من المفروض أن تهدأ. فإذا كانت المرأة العادية عنوان اضعاف للرجل فإنّ امرأة أبي الطيب تتحوّل عنصر تقوية لبثّ المزيد من الشدّة. وقد تفاعل الشاعر مع هذا النمط من التفكير والشعور، فاستهواه وتجلّت ملامحه في غرض المدح. فصورة النصر الباهر الذي توفرت مظاهره العديدة على يدي سيف الدولة انتقل انبهارها الى قريحة أبي الطيب فهيّجت فيه شجون حبّ وهيام الى حدّ يشبه العشق والانتشاء الساحر. إنه يتملّى الجثث المتناثرة فوق جبل الأحيدب وقد أثخن القائد العربي في صفوف الروح فبدّد شملهم وأنهك قواهم، فإذا المشهد مشهد زفاف وعروس ومدعوّين: نثرتهم فوق الأحيدب كلّه كما نثرت فوق العروس الدراهم .. ولست مليكا هازما لنظيره ولكنّك التوحيد للشرك هازم تتداخل ملحمة القلب بملحمة الروح بملحمة الصورة العقليّة الايحائية.. ولا غرابة من منطق المتنبي: فقلبه يخفق حبّا وارتياحا، وروحه تسبح لنصر الله في شخص الممدوح، وعقله متفتّقة قريحته على صور إبداعية ايحائية تبحث عن الجديد غير المسبوق. فعين المتنبي متحمسة في كل مقام ومع كل غرض وكل شيء، لأنها بكلّ بساطة ليست مستعدّة لغير ذلك كي تراه وتتعشقه. ولعلّ هذا ما يفسّر من بعض الوجوه، غياب المقدّمات الطلليّة النسائية العاطفيّة في عدد من المدحيّات أو إيجازها أحيانا أخرى. فالمتنبي ليس مستعدّا للوقوف أصلا، فما بالك إذا كان الوقوف للبكاء والضعف والتوّع. لذا عوّض العقل القلب في كثير من مقدّمات المدحيّات، فحضرت الحكم والتأمّلا: لكل امرىء من دهره ما تعوّدا وعادات سيف الدولة الطعن في العدى أو قوله: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم أبيات تدور على بعضها بعضا لتصنع فنّ التعشق للعظمة والبطولة والإباء، فيصبح منه بطل القصيدة عروبة تقارع عجمة، وإسلاما يناجز كفرا: تشرّف عدنان به لا ربيعة وتفتخر الدنيا به لا العواصم فهذا البيت ورد في آخر القصيدة ليفصّل القول في ما تنبّأت به المقدّمة الحكميّة، فالبطل الأسطوري يشده الرجال إليه ويمنع الفراق ويعسّره: يا من يعزّ علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم ورغم أنّ عصر المتنبي (القرن 4هـ) تباعدت فيه المسافة عن العصر الجاهلي وقيمه فإن عقل المتنبي ظل لصيقا به حتى كأنه غريب عن عصره ممّا عسّر العلاقة مع الآخر ـ فكافور ـ مثلا ـ كان نموذجا للرجل الذي كوّن نفسه بنفسه فقد قال فيه خير الدين الزركلي في «الأعلام»: «مازالت همّته تصعد به حتى ملك مصر سنة 355 هـ. وكان فطنا ذكيّا حسن السياسة.. قام بتدبير المملكة. قال الذهبي: كان عجبا في العقل والشجاعة» ورغم كل هذه الشهادة الصارخة، فإنّ قراءة المتنبي لشخصيّة كافور أفسدت عليه رؤية تلك الخصال، فأبو الطيب مأخوذ بعقليّة عصبيّة عنصرية تحتقر المرء لمجرّد لونه الأسود، فكان ذلك وحده كفيلا بأن يطمس ما طبع بلاط الملك بأرقى أنواع المعرفة والمناظرات والمساجلات الفكريّة والأدبيّة فلم يبق من الرجل إلا جلدة زيتية وشفران غليظان ورجلان مضخمتان حتى كأنه السليخة التي يُرمى بها في سلة القمامة: نتونة وخصي ينفي كلاهما كلّ رجولة وكل سيادة. من علّم الأسود المخصيّ مكرمة أقومه البض أم أباؤه الصيد أم أذنه في بد النخّاس دامية أم قدره وهو بالفلسين مردود؟ موقف واضح من الأعاجم كان من المفروض أن تغليه عقليّة الإسلام السمحة. وهكذا نفهم كيف انتقى أبو الطيب أبطال أشعاره رمزا للبهاء فعلا، ورمزا للبهاء أصلا. إنّ فكر الانتصار يجعل من الرجل قادرا حتى لو كان منفردا في عصر الهزائم والانقسامات. وبهذا الاستثناء الخارج عن وعلى القاعدة جسّم بطله سيف الدولة: وقفت وما في الموت شك لواقف كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم وهذا ما يفسّر كذلك إعجاب الشاعر ببدر بن عمار وتصرّفه مع الأسد، فكان الرجل الأسطورة التي لا تحدث دائما: أمعفّر الليث الهزبر بسوطه لمن إدّخرت الصارم المصقولا .. سبق التقاءكه بثوبة هاجم لو ل تصادمه لجازك ميلا خذلته قوّته وقد كافحته فاستنصر التسليم والتجديلا .. ما كلّ من طلب المعالي نافذا فيها ولا كلّ الرجال فحولا ومن يتبع جزءا من أولى مدحيّات المتنبي في سيف الدولة يزداد تأكدا من تغلغل الحسّ الحماسي الملحمي الذي امتلك جوارح الشاعر فتواثبت لديه الصور تدور على نفسها في تناغم داخلي يحاكي دوران الجيش على الجيش والتحام الأبطال بالأبطال حتى تخترقك الكلمة بإيحاءاتها تفعل فعل الساحر في جلبه لأمجاد الأجداد عروبة وإباء واصرارا. طبيعة متحرّكة صبحا ليلا وسيوفا وقنا، تتآزر لتصنع المجد والسؤدد جناس وطباق ومقابلات واطناب وتكرار صور تولّد صورا في لغة لا تعترف بخديل، في قدرة عجيبة على الإخصاب الذاتي: فقد ملّ ضوء الصبح ممّا تغيره وملّ سواد الليل ممّا تزاحمه وملّ القنا ممّا تدق صدوره وملّ حديد الهند ممّا تلاطمه سحاب من العقبان يزحف تحتا سحاب إذا استفسقت سقتها صوارمه بهذا المستوى من الرؤى الشعرية تفرّد المتنبي فاغترب، وعاش حياة أبعد ما كون عن الهدوء والقرار. وتلك ضريبة الرجولة عندما تفرض على أصحابها ممّا عجزوا عن أن يتنكّروا للهويّة والانتماء، الانتماء الى اللّه إسلاما والى الإنسان عروبة وفي تكامل أفقي عمودي بينهما نقطة التقادح والخلود: فالإنسان قبس من روح اللّه. منقول | |
|
| |
| مع المتنبي ( الحماسة ) | |
|