إعداد : حاتم بن عبد السلام
أستاذ أول للتعليم الثانوي
مدير المدرسة الإعدادية العهد الجديد بمساكن
معرفة الذات ( إنّيتي ) و الحضور
للإجابة على مثل هذا الإشكال فيمكن الانطلاق من :
- أي شكل يمكن أن تتخذه معرفة الذات إذا لم تكن معرفة موضوعية ؟
- ماذا يعني الوعي بالذات ؟
- ما هو الشكل الأمثل لتحقيق الوعي القادر على ضمان معرفة الذات لذاتها ؟ عن أي وعي نتحدث هذا الذي يقودنا إلى معرفة من تكونه الذات على حقيقتها الحميمة ؟
إن معرفة الذات لا تعني معرفة موضوعا ما من مواضيع العالم أو معرفة شيئا ما ملقى هناك في العالم و إنما تعني فهم الذات العارفة لكيفية تكوّن الأشياء و المواضيع , فهويّة الموضوع ليست هي هويّة الذات العارفة , إلا أنّ نظام العادة في مستواه الطبيعي يجعلنا نعتقد أن مجال التفكير لدينا يتأسس ضرورة على القصدية ( intentionnalité)هذا ما يجعل الذات و هي تبحث عن كيفية معرفة ذاتها تنساق مع ذلك الاعتقاد القائل بأنّ الذات يمكن هي أيضا أن تكون شيء من الأشياء التي نمسك بها بواسطة القصدية و كأن الأشياء الروحيّة من نفس طبيعة الأشياء المادية , فهناك من يقول إني أمتلك روحا مثلما يقول في مواضع أخرى إني أمتلك سيارة أو لي محفظة نقود في جيبي , فتصبح الرّوح و كأنّها نوع من الأشياء التي تندرج ضمن نطاق ممتلكاتنا الشخصيّة , إلا أنّ هذا الفهم الخاطئ للذات يؤدي بنا ضرورة إلى ضرب من اللامعـنى و ذلك لأنّ الروح إذا ما كانت تمثّل الذّات فهي التي تمتلكنا و لا يمكن أن تكون شيء نمتلكه , فإذا كان هناك وعي بشيء ما فهو دائما متأسس على الوعي بالذّات , ففي كلّ حالة من حالات الوعي بشيء ما إلا و تؤكّد الذات ذاتها و ذلك لأنه قبل أن يتحقّق الوعي بمواضيع العالم تكون الذات حاضرة ضرورة لذاتها , إلا أنّ المشكل هنا يكمن في معرفتي بأنّه ليس لي أي معرفة بذاتي كما هي على حقيقتها بل أنا لا اعرف من ذاتي إلا القدر الذي أعتقد أنه يجب أن تكون عليه كما تتجلى لذاتي ( السطح / الظاهر )
إذا سلمنا أن معرفة الذات هي معرفة الفرد لإنّيته الخصوصية بما تتصف به من حميمية فهذا يؤدي إلى التسليم بأن هذا الضرب من المعرفة لن يحقق فعليا معرفة بالذات و لكنها تجعلها فقط ممكنة , ذلك أن العودة إلى الذات لا تعني فقط مضاعفة الإدراك إذ أنّ عملية الإمساك بالوعي الذاتي تسهم في خلق حالة من اليقظة , فإذا كان لي وعي ببعض أفعالي ( الغضب – الحمق – العنف ... ) و كنت مدركا لطبيعة هذه الحالات فأنا أعتقد في هذه اللحظة أنني بدأت أنظر إلى نفسي كما هي .
فهل يعني هذا أنّ الانتباه العادي لذواتنا يخوّل لنا تحقيق حالة الوعي ؟ الإجابة ستكون بالنفي ذلك أن الإمساك بالوعي لا يجب أن يكون عن طريق الصدفة أو بصورة جزئية , فاستئناف عملية الوعي لا تكون إلا بصورة متواصلة أو لا تكون , أما الرجوع من جديد إلى النوم بعد بعض لحظات الوعي و الاستسلام إلى عادات جديدة ثابتة فهذا ما لا يمكن أن نعتبره استئناف للوعي إذ هناك من الناس حالما يستفيق من النوم حتى يعود إليه من جديد و ذلك بعودته إلى تلك الحركات الآلية التي تقتضيها منه الحياة اليومية في يوميتها و بما تفرضه من مشاغل عادية ( الذهاب إلى العمل – الأكل – الثرثرة – القيام بما يقوم به الآخرين ....) و هي كلّها حركات روتينية يقوم بها الجسد بصورة آلية وهي من هذه الجهة - و إن كنا نعتقد أنها أفعال واعية – فهي لا تتجاوز مجال اللامفكّر فيه و الحال أن الأنا كي يحقّق استفاقة حقيقية فيجب أن يفكّر .
إن الاستفاقة لا تتحقق إلا بواسطة الرؤية النيَرة / الواضحة (la lucidité ) و هي تمثل حالة من الملاحظة المستمرة لكل ما يرد على الذات و هي ليست فقط حالة من الانتباه الذي يشدَني إلى العالم الخارجي , باعتبارها لا تقتصر على ثنائية موضوع / ذات فهي ليست نتاج تفكير استبطاني منعكس على الذات بل أن الرؤية النيَرة تلاحظ ما يدور حولها دون أن تصدر أحكاما و دون أن تقدَم إدانات فالملاحظة الواضحة تتمركز في وحدة الأحاسيس من ذلك نستخلص النتيجة التالية: الرؤية النيَرة و الواضحة تختلف اشدَ الاختلاف عن الاستبطان باعتبار أنها لا تسمح بفعل انغلاق الذات على ذاتها لتنتصب حكما على ذاتها إما لتدينها أو لتثمَنها و إنما هي انتباه متواصل يمكَن الوعي من التجلَي و الظهور ففي مجال الرؤية النيَرة يجب أن أكون منفتحا على كل جزئية فكرية أو حسيَة على كل مجال انفعال أو كبت و كلما كانت الرؤية واضحة و منفتحة أكثر كلَما كان مجال الحرَية أرحب و أوسع من هنا تنشأ المعادلة التالية : الرؤية النيَرة = الحريَة بل هي تضاعف مجال الحرَية و الحال أن الاستبطان يبقي الذات منغلقة على إنيتها الفكريَة الضيَقة لتخلق بذلك صدامات و صراعات و عنف و هي تؤدي تدريجيا إلى السقوط في ضرب من العزلة و الانفراد مما يؤدي بدوره إلى شعور الذات بدونيتها و صغر مقامها و عجزها عن تغيير ما بداخلها و تحقيق ما تطمح له من هنا نسقط في شكل مرضي من الصراع مع الذات لان الطريقة الاستبطانية تحمل دائما في طياتها حكما و تقييما و أن نفهم العالم عموما و خاصة أن نفهم ذواتنا لا يعني ضرورة أن نحكم .
← نستنج من ذلك أن الرؤية النيَرة إذا فهمناها الفهم الصحيح لا تغذي الإنَية بل تسعى لإذابتها , فليس هناك أنا في الرؤية النيرة بل فقط وعيا شاهدا , وعيا منتبها لذاته , وعيا لاشخصيا impersonnelle )) تكون له القدرة على إدراك آليات تطوَر الأنا و طبيعته و في هذا الوعي بالذات و بواسطة حركة متواصلة من الاستكشاف أين تحقق الذات معرفة بذاتها على الصورة الأمثل خاصة إذا ما أدركنا أن المواضيع ليس لها من وجود إلا بالنسبة للانا فهذا يجعلنا نفهم أن العقدة الإشكالية هي في كيفية فهم المعنى الحميمي للانا و من ثم الانتقال إلى الخطوة التالية المتمثلة في فهم ما هي الطبيعة الحقيقية للأنا , كيف تم تركيزه بواسطة الوعي عبر الأفكار . إننا أمام حقل كامل من الاكتشافات الموجهة لفهم الإنية على ضوء الرؤية الواضحة , و الحقيقة التي سنكتشفها تدريجيا هي: ** أننا لسنا مثل ما كنا نعتقد أننا نكون ** . / . - مع تحيات حاتم -