في معرفة حقيقة الإنســـان مـــــن الكينـــونة إلى الوجـــــــود
* هل لا يزال سؤال ” ما الإنسان؟ “ يحتفظ بثقله الإشكالي، بعد ما أتاحه التّقدّم العلمي من معرفة بأفراد النوع البشري وسائر الكائنات الحيّة من الإخصاب حتى الموت أم أنّنا بإعادة طرحه نكون على شاكلة من يريد خلع أبواب مفتوحة ؟ * و إذا سلّمنا جدلا أنّ الأمر ليس على هذه الشّاكلة، فبماذا نفسّر الانتقال من سؤال ”ما الإنسان ؟“ إلى سؤال ”ما الإنساني؟“ ؟ هل بانكشاف عدم وجاهة السؤال أم بتعذر الإجابة عنه بدعوى أنّه سؤال حول الماهية، كما لو أنّ السؤال حول الإنساني ليس سؤال ماهية؟
و إذا سلّمنا أنّ سؤال ”ما الإنساني؟ “ يكتسب مشروعيته بحكم انفتاحه على الكثرة، فهل أنّ هذا الانفتاح ممتنع عن سؤال ”ما الإنسان؟“؟ * هكذا إذن نلج فضاء إشكاليا مترامي الأطراف، يكون فيه الإنسان مصدر السّؤال وموضوعه وغايته، وهو ما عناه سقراط قديما بقوله:”أيّها الإنسان اعرف نفسك بنفسك“.
* ولكن إلى أي مدى يمكن أن نطمئن لمثل هذه المعرفة المباشرة بحقيقة الإنسان؟ ألا يقتضي الأمر اختبار مصداقية مفترضاتها فلسفيا وعلميا ؟
* هل يحقّ لنا اختزال حقيقة الإنسان فيما يشعر به من تفرّد الوجود أي في الأنا أو الوعي أو العقل...؟ ألا تمثّل الغيرية أفقا موازيا تنكشف فيه الحقيقة الإنسانية بنفس القدر الذي تتيحه نافذة الأنا أو الوعي أو العقل؟
* ألا تكون الكثرة في الإنسان دالّة على محايثة الغيرية لإنّّيته ؟ وإذا سلمنا جدلا بهذا الافتراض، فعلى أي نحو فهمنا هذه الغيرية التي تبدو كامنة فينا وعلامة دالة على تكثر وحدتنا؟ أو بالأحرى أيّة قيمة أضفيناها على هذه الغيرية؟
* لنتفّق أولا حول دلالة المفاهيم التي سنوظّّفها خاصة وأنّنا نعتزم بذل جهد تأويلي قد يصطدم بما اقترن بمشكلة الغير من طابع حداثي. إنّّنا لا نستعمل الغير بمعنى الآخر وإنّما بمعنى ما ليس عين ذات الشّيء. فما الذي أكونه أنا كإنسان؟ بأيّ معنى يستوجب تحقّق الذّات الإنسانية استبعاد الغيرية؟
* احتكم القول الفلسفي في الإنسان إلى أنطلوجيا مثالية تفضل المعقول على المحسوس والميتافيزيقي على الفيزيقي والمتعالي على المحايث، فاستحال الإنسان إلى ماهية عاقلة لدى أفلاطون قديما وجوهر مفكر عند ديكارت حديثا.
* إنّنا إذن أمام تصوّر للإنسان يختزل معنى الإنسانية في مجرّد القطع مع الحيواني (الجسم) ـ رغم تعريف أرسطو للإنسان بكونه حيوانا عاقلا ـ تصوّر لا ينزّل ما هو إنساني كاللّغة والقيم والثّقافة عموما إلاّ منزلة الأداة و الوسيلة أي ما به يعبّر ضرب من الإنساني المعطى عن نفسه، بل ويعلن بكلّ غرور وكبرياء أنّه يتصرّف ” كما لو كان سيّدا للطّبيعة ومالكا لها “. * ترسم هذه المماثلة صورة أداتية للجسد تلقي به خارج دائرة الإنّية وتجعل منه مجرد عرض زائف أو كيان خبيث يبدأ عنده مجال الغيرية ونحن نقول هذا على جهة التّأويل، لأنّ الإغريق فهموا الغيرية باعتبارها تشير إلى الكون لا إلى إنسان آخر أو بعد من أبعاده.
* تقيم الأفلاطونية تقابلا بين الإنّية والغيرية على غرار التّقابل بين الذّات والموضوع. وتختزل الإنّية في دائرة النّفس بوصفها ماهية عاقلة تحرص على التحرر من سجن الجسد فترسم للإنسان صورة يكون فيها متحرّرا من جاذبية الأرض. إنّ الأنا المفكرة لا بدّ لها من أن تفكّر في شيء ما وهذا الشّيء أو الموضوع أوالكائن أسبق في الوجود بالضرورة المنطقية ممن يفكّر فيه وبالتّالي فإنّ وجود المفكَّر فيه ينفي عن المفكّر أسبقيته في الوجود. وفى هذا يقول غابريال مارسيل:« لا أملك إدراك نفسي كموجود إلاّ من حيث أنّي أدرك نفسي أنّني لست الآخرين، أي أنّي غيرهم».
* رغم ما يبدو عليه التّصور الثّنائي للإنسان من وضوح وبداهة فهو لا يخلو من الادّعاء والتّناقض سواء بالنّظر إلى مرتكزات القول بالثّنائية أو بالنّظر إلى تبعاته الإيبستمولوجية والأنطولوجية.
* لا يستند القول بثنائية النّفس و الجسد إلى معرفة علمية بحقيقة النّفس ولا بحقيقة الجسد ولا بالكيفية التي تؤثّر بها النّفس على الجسد.
* إيبستمولوجيا يمثل هذا التّصور عائقا يحول دون تمثل الإنسان في واحديته. ”في تمرين رياضي جريء تبلغ فيه الحركات درجة إتقان تكاد تكون خيالية تنذر بالموت، ينبغي أن تزول كل ثنائية بين الأنا والجسد“ (إ.ليفيناس) هل تستوفي فعّالية التّفكير أوالرّغبة حقيقة الإنسان؟
* رغم أهميّة التحوّلات التي شهدها القول الفلسفي في الإنسان، فإنّ معرفتنا بما هو إنساني في كلّ إنسان لم تتجاوز بعد عتبة الوعي.
* وإذا كان الجدل الفلسفي قد أتاح للإنسان إعادة النّظر في علاقته بجسده، فإنّ هذه المراجعة لم ترتق بتمثّل الحقيقة الإنسانية إلى مستوى المراهنة الأنطلوجية على الجسد. وقد يعزى ذلك إلى أنّ القول في الجسد بقي محافظا على الخلط بينه و بين الجسم في غياب معرفة علمية بتركيبته ووظائفه ومستطاعه.
* حالة الاكتفاء الأنطلوجي التي عليها الأنا قبل ولادة الكوجيتو وبعدها تبدو مفتعلة وتتغذّى من الغرور والوهم النّاتج عن الجهل بمستطاع الجسد وشكل حضوره في العالم.
* لا يقيم الإنسان في عالم يبنيه على نحو ذاتي بل ينخرط في عالم طبيعي واجتماعي تحدّدت ملامحه سلفا، وغدا من العسير عليه إحداث تغيير في مكوّناته المادّية والرّمزية رغم ما يدعيه من فعل إرادي غير مشروط.
* فليست الأنا أكثر من مجموعة أشكال أو صور تتجدّد بتجدّد الحياة في الجسد بتعبير نيتشه أو حصيلة العلاقات الاجتماعية ومختلف أشكال النشاط المادي لطبقة اجتماعية معيّنة بتعبير ماركس.
* ومن ثم فإنّ معرفة حقيقة الإنسان لا تكون ممكنة إلاّ بنقد جينيالوجي يكشف أصل نشأة الوعي حسب نيتشه أو نقد جدلي يرسم حدود الوعي ويعيد إنتاجه في صورة أكثر واقعية حسب ماركس. أيّة حقيقة للإنســان يمكن استشرافها بالانفتاح على الجسد والتّاريخ ؟ ” إنّي روح و جسد، هكذا يقول الطّفل. فلم لا نتكلّم مثل الأطفال؟ و لكن من يستيقظ و يعي يقول: إنّي بأسري جسد ولا شيء سوى جسد وما الرّوح إلاّ كلمة تشير إلى جزء من هذا الجسد“ (نيتشه:هكذا تكلّم زرادشت)
* ” الوعي نتاج اجتماعي و يظلّ كذلك طالما وجد بشر“ (كارل ماركس: الإيديولوجية الألمانية)
* إنّ تفاعل ما هو بيولوجي مع ما هو سوسيولوجي هو الذي يرسم تاريخ الوعي ويعيد إنتاجه من مرحلة إلى أخرى.
* ليس ثمة إنّية مطلقة تقيم خارج التّاريخ. ففي مجتمع طبقي مثلا لا يمكن فصل طبيعة الإنّية عن الموقع الطبقي للإنسان وما يترتب عنه من وعي ومخاوف وطموحات.
* لكن إذا كان تناقض المصالح يكرّس ترتيبا تفاضليا بين الإنيات و ينزل بالحقيقة الإنسانية من وحدة المفهوم إلى كثرة الواقع، أفلا نكون بذلك أمام مقاربة تموضع الجسد الإنساني وتحوّله إلى مجرّد لعبة في صراع المصالح؟
* ألا يمكننا أن نتمثّل إنّيتنا وفق أنطولوجيا لا توجهها مقدمات أكسيولوجية أو إيديولوجية، أنطولوجيا تضطلع بالكثرة ويتصالح فيها البسيط مع المركب والثابت مع المتحول؟ " ليس الجسد إذن موضوعا. بمعنى أنّني لا أستطيع تفكيكه وإعادة تركيبه لأكوّن عنه فكرة واضحة. فهو باستمرار متجذر في الطّبيعة في نفس اللّحظة التي يجري فيها تحويله بفعل الثّقافة. وسواء تعلّق الأمر بجسد الغير أم بجسدي الخاصّ فما من سبيل لمعرفة الجسد الإنساني سوى أن أعيشه وأن أتطابق معه. إنّني إذا جسدي " ( مارلوبونتي- فينومينولوجيا الإدراك) بعد أن كان الانفصال عن المعيش شرطا للاضطلاع بالمعرفي أصبح عيش الجسد شرطا وسبيلا وحيدة لمعرفته، لأنّ اكتشاف ذات متجسّدة لا يتأتى من تزييف الأنا المفكرة بل من انتشال الجسد من دائرة الموضوعات القابلة للإخفاء والإبعاد والاستكشاف، وذلك بالتمييز في كيفية ظهور الجسد بين جسدي كما هو بالنسبة إليّ(جسد خاص) وجسدي كما هو بالنسبة للغير(جسد واقعي). فتحوّل الجسد إلى قوام وجود يعني أنّ الكوجيتو قبل أخيرا أن يتجسّد وأن يتخلّى عن غرور الامتلاك والسّيادة والتّعالي. فالذات المتجسّدة تبدو منفتحة على العالم وعلى الآخرين أي على الغيرية، ومن هذا المنطلق فهي وإن كانت وحدة إلاّ أنّها متكثرة وإن كانت كثرة فهي وحدة يعكسها مفهوم الهويّة على نحو تكون فيه متجذّرة في العالم بقدر ما تشهده من تغيّرات تاريخية لأنّه لا تاريخ إلاّ لذات هي ذاتها تاريخية بتعبير مارلوبونتي. بهذا تفتح المراجعة الفينومينولوجية لحقيقة الإنسان أفقا فلسفيا يتيح تجاوز التقابلات التقليدية: ذات/ موضوع، إنسان/عالم، أنا/ آخر، هوية/غيرية.
* بحيث لا يمكن للأنا أن تتمظهر في الواقع إلاّ على نحو ديبلوماسي و ريائي قصد تحقيق التّوازن النّفسي بين هذه الغيريات المتناقضة. فليس للإنّية وجه محدّد تعرف به كما بين ذلك فلاسفة الوعي، بل لها من الوجوه كثرة تملأ المسافة الفاصلة بين العقل والجنون.
* ”فالشّعور بالأنا عرضة للتّحريف والتّشويه، وحدوده ليست ثابتة“ حسب فرويد. و هو ما يفرض الاعتراف إبستيمولوجيا بأنّ الآخر صار أقدر منّي على معرفة ذاتي وأنطولوجيا بأنّه تمّ الانتقال من الإنّية البسيطة إلى الإنّية المركّبة عبر مفهوم البنية.
* لا توجد إذن حقيقة إنسانية مكتملة ونهائية بل هي مسار مفتوح على المواجهة الدّائمة التي تفضي في كلّ مرّة إلى التّّصحيح والتّّعديل أو القلب والهدم بحسب ما تقتضيه لحظة المواجهة.
* وقبل ذلك كان من الضّروري أن يتصالح الإنسان مع غيريته الدّاخلية كي يدرك أنّ الجسد وما ينتج عن نشاطه من دوافع غريزية إن لم يكن عينَ ذاته فهو ليس الغريب إلا إذا كنّّا إزاء حالة مرضية. ولعلّ حاجتنا إلى بناء صورة عن الإنسان انجلى عنها ما أحاط بوضعه الأنطلوجي من ضبابية هي التي تدفعنا إلى الوقوف على أرضية العلاقات البينذاتية الممكنة في عالم يعترف فيه الإنسان أمام نفسه وأمام الآخرين بأنّ نظرة كلب لا تحرجه لكنّ نظرة إنسان تملأ محيّاه خجلا لا يزول إلاّ بقدر ما يضعف الإحساس بوطأة الغيرية عبر التّفهم والتّقبل الوجداني العاطفي ذي الطّابع الإنساني وليس عبر التّحليل والتّركيب العقلي أو الفكري الجاف.
* لكن إذا استحضرنا ما يخترق العلاقات البينذاتية من تناقضات وما يتوسطها من نظم رمزية وتقنية تؤثّر بنسب متفاوتة في إعادة تشكيل الذّات و رسم إنّيتها وغيريتها قد يراودنا الشّك في مشروعية هذا الانفتاح الذي نريد منه معرفة ما هو إنساني في الإنسان، لأنّنا قد نكون بذلك التمسنا الحلّ في صميم المشكل.
* أفلا يكون حينئذ اقتحام نسيج العلاقات البينذاتية أوالتّذاوتية ضربا من الوقوع في شراك نسيج عنكبوتي، لا يمكننا الإفلات منه رغم وهنه وضعفه؟
من ثنائية الذات والموضوع إلى البينذاتية
توطئــة إشكالية -1-
* كان السّؤال عن ماهية الإنسان قد كشف لنا قصور المعرفة المباشرة بالإنّية ومحدوديتها في تلبية مطلب معرفة حقيقة الإنسان، وهو ما حملنا على الانفتاح على أفق الغيرية بحثا عن صورة لإنّيتنا تكون أكثر واقعية. ولعلّ هذا ما يدعونا الآن إلى السؤال مجدّدا عن حقيقة الإنسان ضمن بعدي الإنّية والغيرية، سؤالا يستفزنا للوقوف على دلالة الحدين و للتفكير في شكل أو طبيعة العلاقة التي يمكن أن تصل أو تفصل بينهما:
توطئـــــة إشكالية -2-
* فما معنى أن أكون أنا أو أن أكون غيرا؟ وهل بالإنّية يتحدّد وجود الأنا و بالغيرية يتحدّد وجود الغير أم أنّ الوجود البينذاتي هو الذي يحدّد كليهما؟
* ثمّ هل ينبغي النّظر إلى الأنا من خلال الإنّية وللغير من خلال الغيرية أم أنّ صورتيهما لا تكون صادقة إلا بمقدار ما تكشف عنه من تناظر يعكس ما هو إنساني فيهما معا؟
* لكن أين تكمن الغيرية؟ هل في العلاقة مع الغير أم أنّها تتقدّمها؟ أي هل يمكن الحديث عن إنية أو غيرية دون استحضار ماض يحمل معه رواسب النوع والتاريخ فيثبت الهوية ومستقبل مشحون بانتظارات أوطموحات أو حتميات تعيد تشكيل هذه الهوية؟
ما الإنّيـــــــة؟
* الإنّية Ipséité: تشير إلى وجود الشّيء وإلى فعل إثبات تحقّق هذا الوجود عينيا. وقد ورد في كتاب الألفاظ“ للفارابي“ ويسمّى ذات الشّيء إنّيته وكذلك أيضا جوهر الشّيء يسّمى إنّيته، فإنّنا كثيرا ما نستعمل قولنا إنّية الشّيء بدل قولنا جوهر الشّيء" فنستنتج أنّ الإنّية ترادف الماهية و الجوهر والهوية. * وإذا تعلّق الأمر بالإنسان فإنّ إنّيته هي ما به يكون إنسانا أي قادرا على الاضطلاع بما يخترق وحدته من كثرة.
ما الغيــــــرية؟
* الغيريةAltérité: كون كلّ من الشّيئين غير الآخر ويقابله العينية، فهي التّمايز و الاختلاف و التّباين. وإذا كان الغير Autrui في اللّسان الفرنسي يشير إلى الشّخص الآخر، إلى الأنا الآخر إلى إنسان غيري أنا، فإنّ الآخر(L’autre) يشير إلى أي شخص غيري مثلما قد يشير إلى أيّ شيء آخر.. * أمّا في اللّسان العربي فلا فرق بين الغير والآخر بالإضافة إلى أنّ الآخر عند العرب يشير فقط إلى أحد اثنين دون أن يعنى ذلك أنّ بينهما اختلافا أو بالأحرى تناقضا أي إلى تكثّر كمي.
الإنّيـة و الغـيـرية: علاقة تقابل أم علاقة تناظر؟
* إذا كان التّقابل بين الإنّية و الغيرية في الخطاب الفلسفي الأفلاطوني قديما و الدّيكارتي حديثا قد جعل الغير يحتل منزلة عرضية أنطولوجيا و ظنيّة إيبستمولوجيا فإنّ المراجعة النّقدية لحدود الذّات المفكّرة في خطاب فلسفي وجد في النّقد شرطا لانفتاحه وتطوّره وفي الاضطلاع بتكثر الوجود مهمته الرئيسية، بيّنت:
* أنّ إثبات الإنّية هو في ذات الوقت إثبات للغيرية فقول أنا لا يستقيم ما لم يسلّم بأنه يتوجّه إلى ” أنت“ كما ذهب إلى ذلك بنفينيست في تشخصيه لمكونات تجربة التواصل وما يتخللها من ازدواجية تقاطب ” أنا/ أنت“ * وفضلا عن ذلك أنا لا أملك إدراك نفسي كموجود إلا من حيث أنّى أدرك نفسي مختلفا عن الآخرين، أي أنّي غيرهم.
* لم يتّخذ الاعتراف بوجود الغير بوصفه ذاك الأنا الذي ليس أنا شكلا محدّدا ونهائيا. فقد تراوحت العلاقة البينذاتية بين الصّراع كما تمثّلته الهيغلية في جدلية السّيد و العبد و الموضعة كما رسمتها وجودية سارتر و هي تستحضر الآخرين بوصفهم جحيما والتّعاطف الوجداني كما عبّرت عنه فينومينولوجيا مارلوبونتي و هي ترى في رفض التّواصل ضربا من التّواصل.
* إنني بحاجة إلى الغير لأنه من طبيعة الإنسان أن يرغب في الشرف حسب هوبز. غير يدرك علو مقامي. فملاقاة الغير تعكس أعمق ما في الطبيعة البشرية: الرغبة في السلطة. * لكن ما حاجتي لغير يعترف لي بإنسانية لا يكون فيها وجوده شرطا ضروريا؟
* الرّغبة في السّلطة هي في النّهاية رغبة في الآخر بما هو مكوّن لإنسانيتي. فالغير بمثابة مرآة تقول لي من أنا وتكبر قيمة هذه الشّهادة في نفسي كلّما صدرت عن طرف رفيع المنزلة أي يقترب من منزلة الذّات دون أن يضاهيها.. مرآة الآخر ضرورية حتّى لا يكون وعينا بذواتنا مجرّد وهم. فمن الذي يميّز مجنونا يعتقد نفسه ملكا عن الملك ذاته؟ إنّه الغير حتما، الغير الذي لا يعترف للمجنون بما يتوهّمه.
* إنّي لا أكون إنسانا إلاّ إذا كان هناك غير يمنحني صفة الإنسانية حسب هيغل. فهل أنّ انتزاع هذا الاعتراف أمر هيّن إذا كان الأنا والآخر يرغبان فيه معا؟ ألا يتطلّب تحقيقه الدّخول في صراع يغامر فيه الأنا والآخر بحياتيهما؟ طالما أنّ كليهما سيقدّم نفسه إلى الآخر كما لو كان غير متشبّث بالحياة رغبة منه في استدراج الآخر إلى التّخلي عن مواجهته واللّجوء إلى الاعتراف به. إنّه الصراع إذن فما الذي قادنا إليه؟ الإجابة عن هذا السؤال تقتضي توقّفا عند مراحل تشكل الوعي بالذات. بأيّ معنى يكون الصّراع علاقة بينذاتية؟
* الوعي كيان يتكوّن وينمو ويتجلّى في المعيش اليومي باستمرار انطلاقا من الوجود الطبيعي الحيواني للإنسان إلى أن يبلغ أعلى درجات التطور(المطلق) عبر مختلف لحظات الصيرورة التاريخية.
* فحين يكون الإنسان مرتبطا بإشباع رغباته البيولوجية مباشرة من الطبيعة يكون في ذات الوقت مجرّد جزء لا يتجزّأ منها بحيث أنّ وعيه بذاته وجود لذاته بسيط للغاية. وحتى يتأتّى له تجاوز هذا الوضع الأوّلي المعطى، عليه أن يخوض صراعا ينتزع به الاعتراف من قبل الآخر (الغير).
* غير أنّ هذا الصّراع لا يمكن أن يستمرّ إلى مالا نهاية كما لا يمكن أن ينتهي بموت أحد الطرفين وذلك لسببين على الأقلّ: أوّلهما: أن وراء إظهار المخاطرة بالحياة هناك غريزة حبّ البقاء والحفاظ على الذّات. ثانيهما: أنّ موت أحد الطّرفين سيحول دون تحقيق الهدف المنشود من وراء هذا الصّراع ألا وهو انتزاع الاعتراف بالأنا من قبل الآخر (الغير).
* إذن لا بدّ من أن ينتهي هذا الصّراع بتفضيل أحد الطّرفين للحياة على الموت، وحينها سيستلم للآخر ويعترف به. وبهذا تنشأ العلاقة الإنسانية الأولى: علاقة السّيد بالعبد، الأوّل مستقل بذاته موجود من أجلها والثّاني تابع للأوّل وموجود من أجله. فهل أنّ الصّراع هو الأفق الوحيد الممكن للعلاقة بين الذّوات وللعلاقة بين الشّعوب؟ وهل أنّ قدر ”الإنساني“ أن يكون امتيازا لهذا دون ذاك؟
أفلا تكون البينذاتية علاقة موضعة و حياد؟
* ليست الحرّية بما هي قيمة دالّة على الإنساني ثمرة لصراع ينتهي بالاعتراف كما زعم هيغل، بل أساس كلّ القيم وهي حقيقة الإنسان الكونية في تصوّر سارتر. ومن ثمّ لا يكون اللّقاء مع الآخر(الغير) مناسبة للصّراع وانتزاع الاعتراف، بل لتجسيد الحرّية بما هي حقيقة الإنسان الكونية حتّى و إن استحال اللقاء إلى لحظة للموضعة و التشيؤ.
* في تحليله لتجربة الخجل النّاجمة عن نظرة الغير: يرى سارتر أنّه قبل الخجل يتصرّف الأنا في تطابق مع ذاته بحرّية وتلقائية، إنّه مركز عالمه الدّاخلي، وما أن يحسّ الأنا حضور الغير من خلال نظرته، حتى تتجمّد حرّيته وعفويته (التّوتر-الارتباك-الإحساس بالتّفاهة...) وينسحب من مركز عالمه إلى هامشه، وقد تحوّل إلى موضوع أو شيء لأنّه يحسّ أنّ صورته كما يراها الآخر مستقلّة عنّه في وجودها استقلال صورته الفوتوغرافية. ”عندما ينظر إليّ الغير فهو يفرض نفسه خارجا عنّي ليحوّلني إلى شيء، قادرا على تأويل سلوكي وإعطائه معنى قد لا يكون هو المعنى الذي أقصده، وبذلك أسقط تحت رحمته وسلطته“. (سارتر: الوجود و العدم)
* يرجع سارتر الطّبيعة التّشييئية لعلاقة الأنا بالغير إلى أنّ هذا الأخير هو ”لا- أنا“ ممّا يعني السّلب والنّفي والانفصال، هذا الانفصال الذي تؤكدّه واقعة الاستقلالية الفعلية لجسمينا. وهكذا لا يمكن للغير أن يتبدّى لي كما لا يمكن أن أتبدّى للغير إلاّ كـ ” شيء في ذاته “. فهل أنّ علاقة الأنا بالغير علاقة بين أشياء أم بين أحياء أو ذوات؟
* إنّ نظرة الأنا للغير لا يمكن أن تموضعه وتشلّ فاعليته وتحدّ من حرّيته وتقضي على إرادته... إلاّ إذا افترضنا إمكانية انسحاب الأنا داخل طبيعته المفكّرة وغضّه الطّرف عن كلّ ما هو إنساني في الآخر.
* لهذا الافتراض نتيجة خطيرة وهي أنّ كينونة الأنا لا ينبغي أن تتأثر وتنفعل بكينونة الغير، كما لو كانت علاقتهما من جنس علاقة سائر الأشياء بعضها ببعض. فهل هذا ما نعيشه حقّا باستمرار؟ ألا تجمع بيننا مشاعر الفرح والحزن؟
* إنّ الاختلاف والمغايرة بين الذّوات ليس من نمط الاختلاف الطبيعي ( كذاك القائم بين طاولة وكرسي) بل اختلاف إنساني لا يلغي التّقاطع ضمن المجال ”البينذاتي“ المشترك. لهذا السبب لا يتحدّث مارلوبونتي عن المعرفةconnaissance) ) بل عن الانبثاق المشترك ((co-naissance. فأين يتبدى هذا الانبثاق المشترك؟
* تقيم عملية التّواصل الدّليل على إمكانية التّعايش مع الغير في تقدير مارلوبونتي، لأنّ العلاقة معه لا تفضي إلى الموضعة والنّفي إلا إذا قامت على نظرة نافية لإنسانيته بإصرار مسبق: أي نظرة تفحّص ومراقبة لا نظرة تفهم وتقبّل (كنظرة الأمّ وهي تتابع مشجّعة خطوات إبنها الأولى). * إنّ أبسط تجارب التّواصل بعد صمت لا تنقل إليّ بعض أفكار الغير وأصواته فحسب، بل وعالمه الذي كان يتبدّى لي من قبل متعاليا وغريبا و منفصلا عن عالمي. فما أن تتحرّك لحمة اللّسان داخل كهف الحنجرة و ترتعش الشّفاه و تصدر الأصوات حتّى يصير لشخص المتكلّم وجه أعرفه به كوجه ما لكلام أسمعه.
* يبدو إذن أنّ خطأ النّظريات الفلسفية يكمن في كونها اختزلت الغير تارة إلى موضوع وتارة إلى ذات، و الحال أنّ علاقة الأنا بالغير علاقة جدّ معقدة يتخللها النفسي والاجتماعي، الفردي والجماعي، الوجداني والعقلي، الاقتصادي والسياسي...
* ليس الغير مجرّد فرد مشخّص بعينه بل الغير بنية (Structure) على حدّ تعبير جيل دولوز أي نسق منظّم من العلاقات والتفاعلات في ما بين الأشخاص / الأفراد كأغيار... وهو بهذا المعنى ليس موضوعا في حقل إدراكي الحسي، ولا ذاتا تدركني إدراكا حسيا : إنّه أوّلا بنية الحقل الإدراكي، لولاها لما أمكن لهذا الحقل أن يشتغل كما يشتغل بالفعل.
* إذا كان الغير في مطلق الدّلالة هو الأنا الذي ليس أنا فهل يستوفي الحاضر كلّ أوجه القول في العلاقة البينذاتية؟ أليس للماضي من الجاذبية ما يجعلنا نستحضره بطقوسية تحملنا على تجريم الحاضر؟ * وأي رهان يسم حضورنا في الحاضر؟ أليس هو استقبال المستقبل؟ ألسنا في النّهاية بين غيريتين؟ الأولى ماضية لم تمض، والثّانية مقبلة لم تقبل؟ بأيّ معنى تمثل الإنّيـــة إقبالا على الغيـرية ؟
* إذا كان الحاضر يجعل الغير يشاركني الانبثاق فإنّ الماضي يجعل ذاكرتي مجالا لحضوره: فهو طفل في صورة تذكارية، أو حادثة طريفة ترويها الأم...أنا الآن مختلف، أنا آخر، فالزّمن يحفر الغيرية في الإنية ويعمّقها، إلى حدّ يغدو معه الأنا و الغير متحايثين نفسيا واجتماعيا وثقافيا. * لمّا كان الحاضر لا يحضر فإنّ تعيين وضع يكون فيه الأنا أنا يبدو مستحيلا. ليس أنا الحاضر إذن أكثر من وثاق يشد غيريتين الأولى لم تمض والثانية لم تقبل.
* يصبح مشكل الغيرية داخل العلاقة مع الغير أكثر صعوبة. و نتبين الغيرية أكثر بين الآباء والأبناء. فأزمة المراهقة تجعل من كان سابقا في حضن العائلة لا يُقبل عليها مجدّد إلا بالتقابل والاختلاف، إنّه يضطلع بغيريته. فمن جيل لآخر تتعمق الهوة، فنحن نشعر بشدة اختلافنا عن أجدادنا وأكثر اختلافا عن الجيل السابق لهم.
* الزّمن يحفر الغيرية، إلى حدّ يغدو معه الأنا آخر. فعندما أنظر في الماضي أجد نفسي آخر بالنظر إلى اليوم: لم أعد ذلك الطّفل. أنا الآن غير،أنا آخر. من كان في الماضي صديقا قريبا تغير بفعل الزمن، لقد أصبح آخر وما كنا نتقاسمه في تلك الأيام لم يعد يقرّب بيننا حقا. لقد نمت الغيرية بيننا. فالجار الذي يسكن بالقرب مني هو في نظام الآخر أكثر مما هو في نظام الأنا. ”أن أكون إنسانا هو أن أكون غيري في الوقت الذي أبقى فيه أنا نفسي“ (بول ريكور: التّاريخ و الحقيقة) * أيّة جدلية تتيح للإنسان الاضطلاع بإنسانية تكون فيها الإنّية غيرية والغيرية إنّية؟ ألسنا بصدد خلف شبيه بخلف رياضي يتحدث عن دائرة مربعة ؟ * ثمّ إذا كان الاضطلاع بالإنسانية رهين هذه الجدلية المفقودة والمنشودة، فهل يعني ذلك أنّنا لا نزال خارج التّاريخ الإنساني؟
شكرا لكم على حسن المتابعة ( ورد ضمن الدروس التلفزية لقناة 21 ) وإلى اللّقاء في درس فلسفي جديد مع تحيات الأستاذ: لطفي زكري
منقول