إعداد : حاتم بن عبد السلام
أستاذ أول بالتعليم الثانوي
مدير المدرسة الإعدادية العهد الجديد بمساكن
تدريب على كيفية بناء مقال فلسفي
الموضوع :
نقول عادة : " يجـب أن نـعـيـش أولا . أن نـتـفـلسـف فـيما بـعـد " ما رأيك ؟
- Iالمقدمة :
نتعامل مع الـفـيلسوف عادة بصورة مزدوجة و ذلـك لـطبيعة ما لـدينا من انطباعات بشأنه و هي إما أن تكون إيجابية وإما أن تكون سلـبية : فنحن نحترمه و نعجب به بصورة حدسية و في نفس الوقت نحن مستعدون للسخرية منه ليصبح بذلك مبعـثا لـلضحك .
إذ تتجلى تأملاته من جهة أولى على أنها تلامس عن قرب المشكلات الجوهرية التي تفرضها الوضعيات الإنسانية المعـقـدة و لكن من جهة ثانية و على الـنـقـيض من ذلـك يمكن أن نتمثـله كذلـك الذي يبحث عن النجوم في السماء فيسقط في بئر ( la fontaine ).
فهل أن الانشغالات الفلسفـية هي مجرد تأملات نظرية لا علاقة لها بالمعيـش أم على العكس من ذلك الفلسفة تضطلع بمهمة إعانتنا على أن نعيش و نحي ؟
فالحكمة العامية تعتـقـد أن الـفـلسفة لا فائـدة منها عندما تذهب إلى الإقرار بأنه : " يجب أن نعيش أولا أن نتفلسف فيما بعد "
هذا ما سنحاول تحـليـلـيا أن نعيـد الـنظر فـيه و امتحانه متسائـلـين عن الحجـج الـمـبررة لـهـذا الــموقـف ؟
و ما هي الاعتراضات التي يمكن أن تـدحضه ؟
- IIجوهر المقال :
***التحليل ***
1- أن نــعيش أولا أن نتـفلسف فيما بعـد :
أ- الفلسفة كتـنـصل من المعـيش و الحياة :
« إذا كانت الطبيعة قـد صنعت الإنسان بصورة سـوية كما يقـول – روسو – فيمكن أن نـقـرّ على ضوء ذلـك أن عملية الـتـفـكير هي حالة مضادة لـلطبيعة و أنّ الإنسان الذي يـتـأمـل هـو إنسان فاسد » فالـتـفـكـير يـبعدنا عن الـمعيـش و يجعلـنا نـتـناسى الحـيا ة خاصة و أنّ الحـياة تعني الـفـعـل بـينـما الــتـفـكـيـر يـفـتـرض مـبـدئيا تـعـلـيـق الـفـعـل و الـتـماسف عنه فـعـمـلية التـفـكير تتـنصّل من المعيش لكي تعود الذّات إلى ذاتها أي رفض العالم . من هنا ينسحب الفيلسوف إلى برجه العاجي لكي يتفرّغ لتأملاته و هذا الموقـف بالتحديد هو الـمؤكـّد على فعل الـتـنـصّل من الحياة الحـقـيـقـية في أبعادها الواقعية . و بذلـك يكون الفـيـلسوف دائما مهملا لـتـلـك الأحداث العـينيّة المكوّنة لحياة الإنسان في مختـلـف عناصرها فالفـيلـسوف الميتا فيزيقي يعلـمنا أنّ العالـم الحسّي ليس هو إلا ظاهرا و ظلا و زيفا و أنّ الأشياء الـفـانية و المتغـيـّرة و التي عادة ما ننشدّ لها ليست مؤهلة لأن نحترمها و ننشغـل بها بل يجب أن نرفــض كل متعة حسيّة و أن نهمل كل أهوائنا ( مجال الدوكسا ) و أن لا نتورّط في أي ضرب من ضروب الـفعل لأن كل ذلـك يمثل خطأ / خطيئة , فالـفـيلسوف الأفلاطوني لا يمكن أن ينـتـمي لهذا العالم بل هو الذي يسعى قـدر المستـطاع لـلخروج من الـكهف و الـتحرّر من قـيوده ليلـتحق بعالم الأفكار التأمّـلـية المثالية بما تحتويه من حقائق مجرّدة و كـلّـية تدخل ضمن نطاق معقـولـيـتـنا فإدانة العالم الحسّي تعود إلى إدانة فوضته و صيرورته التي لا معنى لها , هذا ما جعل أفلاطون يعرّف الـفـيـلسوف بأنّه ذلك المتدرّب على الموت و أن يعيش و كأنّه قد مات فعليا ( موقف أفلاطون الإقصائي للجسد بما هو عائق على إدراك الحقيقة الكلية كخير أقصى ) . من هنا نفهم طبيعة رفض الحسّ المشترك للفلسفة على اعتبار أن هذه الفـلسفة تدفعنا للانقطاع عن الحياة حتى قـبل أن نموت فتكون الفـلسفة تفـكيرا في الـموت عوض أن تكون تفكيرا في الحياة لعـلّ هذا ما يبرّر فعل الـنـفـور من الفـلسفة لـدى الإنسان العامي .
ب- المظهر التجريدي للفلسفة :
إنّ جلّ الـدراسات التي نـبوّبـها تحت اسم فـلسفة بالـفعـل لا نجـد فيها أي فائدة حيويّــة في معيشنا , فنحن عادة ما نرصد الميتافيزيقا و المنطق و علم النفس و الأخلاق . إلا أنه بيّن لنا أن جانب الميتافيزيقا و المنطق يطرح جملة من الأسئلة المجرّدة بصورة خالصة لا تمت بأي صلة لمشاكلنا العينية التي تعترضنا في حياتنا اليومية , فيصبح الفيلسوف بذلك و كأنه ذلك الإنسان المتعالي عن واقعه منشغلا بالسماء و باحثا عن حقائق أزلية و خالدة لا وجود لها على الأرض , كما أن الجانب الثاني من الفلسفة و المهتم بعلم الـنفس و الأخلاق يصـيبنا بخيبة أمل خاصة عندما نـتوقع من علم الـنـفـس و الأخلاق أن يكونا علوما عينية وواقعية إلاّ أنها إجرائيا علوم منشغـلة بأسئـلة تجريـدية تأمــلـية , فعلم الـنفــس مثلا يعرض علــينا جملة من الـمفاهيم المعقـدة و الغير مفهومة كتساؤله عن آلـيات الإدراك أو طبيعة التمثلات العقـلـية أو دور المفاهـيم في تشخيص تركيبة حياتنا النفسية االمتـداخلة .كما أن مجال الأخلاق يقـترح علينا جملة من الــقواعد الـنـظرية التي لا تساعـدنا على إيجاد حلّ لبعض الصعوبات العملية التي تهم سلوكنا الفعلي .
الـفـلسفة إذا تكون عديمة الـفائـدة – كما يشير إلى ذلك أرسطو – على اعتبار أنـّها جملـة من الـتأملات المجردّة و الـنظرية و التي لا تـفـيـد الحياة اليومية في معـيـشـها العادي .
ج – الفلسفة يجب أن تكون نظرا في المعيش الحيوي .
لإنـقاذ الـتـفكير الفـلسفي من التدمير و الرفـض و اللامبالاة فيجب أن نستعـيـد الإقـبال على الفـلسفة من جهة فائـدتها الـتطبيـقـية و أن تكون دراسة لبعض الأدوات النفعية فنعيد بذلك رسم صورة الفلسفة لنحوّلها من وضعيّة التفكير في الموت إلى وضعية " التفكير في الحياة " كما يؤكد ذلك – سبينوزا – فإذا عدنا إلى منشأ الفلسفة في مهدها اليوناني الأول لوجدنا سقراط يقدّم لنا فهما للفلسفة يرفض من خلاله إحداث تمايزا بين التفكير والفعل , أن نتفلسف هو أن ننظر في الحياة و أن ننشغل بالنظر في شروط إمكان تحديد القواعد و المبادئ الموجّهة و المنظمة لحياتنا . إن هذا التعارض الواضح بين الفلسفة التأملية و الفلسفة التطبيقية / العملية نجد بعض من ملامحه في الفلسفة الديكارتية ففي ( مقالة الطريقة discours de la methode ) يقول ديكارت " أنه من الأجدر بنا أن نسعى لإيجاد فلسفة عملية عوض الاكتفاء بتلك الفلسفة التأملية التي ندرّسها في المدارس " و من هنا نتمثل طبيعة التأكيد الديكارتي على مسألية النهج في الفلسفة و من الملاحظ هنا أنه لتحقيق مثل هذا الفهم الحيوي للفلسفة فيجب قبل كل شيء و بصورة أولية " أن نعيش أولا " ففي ماذا سنفكر إذا لم ننطلق من المعيش ؟ فديكارت نفسه يذكر لنا أنه قبل أن يعوّل على ذاته في مجال النظر الفلسفي كرّس سنوات عديدة من حياته و هو يدرس كتاب العالم و يستقي منه مختلف التجارب التي يمدنا بها
فسوى اعتبرنا الفلسفة كتأمل مجرّد أو كنظر في الحياة فيجب الإقرار بأنه : " يجب أن نعيش أولا و أن نتفلسف فيما بعد " للتأكيد على أهمية الفلسفة و ضرورتها في حياتنا .
يتبع - الجزء الثاني من العمل في الصفحة الموالية - مع تحيات - حاتم بن عبد السلام-